Translate فضل

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 1 أبريل 2024

​الأدب الكبير​ المؤلف ابن المقفع

 

الادب الكبير لابن المقفع

​الأدب الكبير​ المؤلف ابن المقفع   //قال عبد الله بن المقفع: إنَّا وَجَدْنا الناسَ قَبلَنا كانوا أعظمَ أجسامًا، وأوفرَ مع أجسامهم أحلامًا١، وأشدَّ قوةً، وأحسنَ بقوَّتهم للأُمور إِتقانًا؛ وأطوَلَ أعمارًا، وأفضلَ بأعْمارهم للأشياء اختيارًا٢. فكان صاحبُ الدِّين منهم أبلغَ في أمر الدِّين علمًا وعملًا من صاحب الدِّين منَّا، وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل. ووَجَدْناهم لم يرضَوْا بما فازُوا به من الفضْل الذي قُسِم لهم لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكُتب الباقية، وضربوا الأمثال الشافية، وكفَوْنَا به مؤونة٣ التجارب والفِطَن. وبَلَغَ من اهتمامهم بذلك أنَّ الرجل منهم كان يُفتَحُ له البابُ من العلم، أو الكلمةُ من الصواب — وهو في البلد غير المأهول٤— فيكتُبُه على الصخور مبادرةً للأَجَل، وكراهِيةً منه أنْ يَسْقُط٥ ذلك عمَّن بعدَه. فكان صَنِيعهم في ذلك صنيعَ الوالد الشفيق على وَلدِه، الرحيم البَرِّ بهم، الَّذِي يجمع لهم الأموال والعُقَد٦: إِرادةَ أن لا تكون عليهم مؤُونةٌ في الطلبِ، وخَشْيَةَ عَجْزهِم، إنْ هم طلبوا. فمُنتهى عِلْمِ عالِمنا في هذا الزمان أنْ يأخذ من عِلمهم، وغاية إحسانِ مُحسننا أنْ يقتديَ بسِيرتهم، وأحسنُ ما يُصيبُ من الحديثِ مُحَدِّثنا أنْ ينظر في كتبهم. فيكون كأنهُ إياهم يُحاوِرُ، ومنهم يستمع، وآثارَهم يتَّبع، وعلى أفعالهم يحتذي، وبهم يقتدي. غير أنَّ الذي نجِدُ في كُتُبِهم هو المنتخَلُ٧ من آرائهم، والمُنتقى من أحاديثهم. ولم نجدْهم غادروا شيئًا يجدُ واصفٌ بليغ في صفةٍ لهُ غايةً لم يسبقوه إليها: لا في تعظيم لله ( عزَّ وجلَّ ) وترغيبٍ فيما عنده؛ ولا في تصغيرٍ للدنيا وتزهيدٍ فيها؛ ولا في تحرير صنوف العلم وتقسيم قِسَمِها٨ وتجزئة أجزائها وتوضيح سُبُلِها وتبيين مآخذها؛ ولا في وجهٍ من وجهٍ الأدب وضُروب الأخلاق. فلم يَبقَ في جليل الأمر ولا صغيره لقائل بعدهم مقال. وقد بَقِيَتْ أشياءُ من لطائف الأمور فيها مواضعُ لغوامض٩ الفِطَن، مُشْتقَةٌ من جسامِ حِكَمِ الأوَّلين وقَوْلِهم. فمن ذلك بعضُ ما أنا كاتبٌ في كتابي هذا من أبواب الأدب التي قد يَحتاجُ إليها الناسُ. يا طالب العلم والأدب! إنْ كنتَ نوعَ العلْم تريدُ، فاعرف الأصول والفصول. فإِنَّ كثيرًا من الناس يطلُبُون الفُصُول مع إضاعة الأُصول. فلا يكون دَرَكهم١٠ دَرَكًا. ومَن أحرز الأُصول، اكتفى بها عن الفصول. وإنْ أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل. فأصلُ الأمر في الدين أنْ تعتقِدَ الإيمانَ على الصواب، وتجتنب الكبائر وتؤدِّي الفريضة. فالزم ذلك لزوم مَن لا غِنَی له عنه طَرْفَةَ عيْنِ، ومَنْ يعلَمُ أنه إِن حُرِمَه هَلكَ. ثم إنْ قَدَرْتَ على أنْ تُجاوزَ ذلك إلى التفقُّه في الدين والعبادة، فهو أفضلُ وأكملُ. وأصلُ الأمر في صلاح الجسد أن لا تحملَ عليه من المآكل والمشرب والباه إلَّا خِفًّا١١. ثم إنْ قَدَرْتَ على أنْ تعلَمَ جميعَ منافعِ الجسد ومضارِّهِ والانتفاعَ بذلك كلِّه فهو أفضَلُ. وأصلُ الأمر في البأس والشجاعة أن لا تُحدِّث نفسَك بالإدبار، وأصحابُك مقبلون على عدوِّهم، ثم إنْ قدرتَ على أنْ تكون أوَّلَ حامل وآخرَ مُنْصَرِفٍ، من غير تضييع للحذر١٢، فهو أفضلُ. وأصلُ الأمرِ في الجُودِ أن لا تضِنَّ بالحقوق على أهلها. ثم إنْ قدرتَ أنْ تزيدَ ذا الحقِّ على حقِّه وتَطَوَّلَ على مَن لا حقَّ لهُ فافعلْ، فهو أفضَلُ. وأصلُ الأمرِ في الكلامِ أنْ تَسْلَم من السَّقَطِ١٣ بالتحفُّظِ. ثم إنْ قدَرْتَ على بارع الصواب، فهو أفضل. وأصلُ الأمر في المعيشة ألَّا تَنِيَ١٤ عن طلب الحلال، وأنْ تُحْسِنَ التقدير لما تُفيدُ وما تُنْفِقُ. ولا يَغُرَّنْكَ من ذلك سَعَةٌ تكونُ فيها. فإِنَّ أعظم الناس في الدنيا خَطَرًا١٥ أحوجُهُم إلى التقدير؛ والملوكُ أحوجُ إليهِ من السُّوقةِ١٦ لأن السُّوقة قد تعيشُ بغيرِ مالٍ، والملوك لا قِوَام لهم إلَّا بالمالِ. ثم إنْ قَدَرْتَ على الرفق واللُّطْفِ في الطلب، والعلم بوجوه المطالب فهو أفضلُ. وأنا واعظُكَ في أشياءَ من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة التي لو حَنَّكَتْكَ سِنٌّ كنتَ خليقًا أنْ تعلمها، وإنْ لم تُخْبَر عنها. ولكنَّني قد أحببتُ أنْ أُقدِّم إليك فيها قولًا لترُوض١٧ نفسك على محاسنها قبل أنْ تجْرِيَ على عادة مساويها. فإنّ الإنسان قد تَبْتَدرُ إليه في شبيبته المساوئُ، وقد يغلب عليه ما بَدَر إليه منها للعادة. فإنَّ لِترك العادة مؤونةً شديدة ورياضةً صعبة. أي عقولًا وألبابًا. وفي ش: اختبارًا. أي تحملوا عنا الكلفة والتعب والعناء. أي غير المسكون. أي يضيع. العقد جمع عقدة. وهی العقار ونحوه يقال اعتقد فلان عقدة إذا اشترى بيعة أو اتخذ مالاً من عقار وغيره. وعلى هامش نسخة الشنقيطي وبخطه ما نصه: العقد "النفائس من الأموال". أي المصفى المختار. أي أقسام صنوف العلم. في ش: الصغار. تحصيلهم للعلم. خف يخف خفا "يفتح الخاء في الأخيرة" أي صار خفيفًا. والخف "يكسر الخاء" كل شيء خف محمله. فصار المعنى وجوب التخفيف في تحميل الجسد من المأكل والمشرب والباه. وذلك هو عين الاقتصاد المطلوب في كل شيء. ووردت هذه الكلمة في ش: "خفافا". وأظن المعنى بها لا يستقيم. والحذر بفتحتين أيضًا. ومعناهما التحرز. السقط بفتحتين الخطأ من القول. أي لا تتوانى ولا تتكاسل لا تفتر. أي وجاهة وطهورًا وقدرًا. السُّوقةَ بالضم الرعية، للواحد والجمع والمذكر والمؤنث. راض نفسه يروضها أي أكثر من مزاولتها الأمر من الأمور ليسلس قيادها. ​الأدب الكبير​ المؤلف ابن المقفع القسم الأول بَابُ إن أبتليت بالسلطان١ فتعوّذ بالعلماء. واعلم أنَّ من العَجَب٢ أنْ يُبتلى الرجل بالسلطان، فيريد أنْ ينتقص من ساعات نصَبه وعمله، فيزيدها في ساعات دَعَتِه وفَراغه وشهوته وعبثه ونومه. وإنما الرأيُ له والحقُّ عليه أنْ يأخذ لعمله من جميع شُغْله، فيأخُذَ له من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولَهْوِهِ ونسائه قدْرَ ما يكونُ به إصلاح جسمه وتقويةٌ له على إتمام عمله. وإنما تكون الدَّعة٣ بعد الفراغ. فإذا تقلَّدْتَ شيئًا من أمر السلطان فكن فيه أحد رجلين: إمَّا رجلًا مغتبطًا به، محافظًا عليه مخافةَ أنْ يزول عنه؛ وإمَّا رجلًا كارهًا له مُكرَهًا عليه. فالكاره عاملٌ في سُخرةٍ: إمَّا للملوك، إنْ كانوا هم سلَّطوه؛ وإمَّا لله تعالى ،إنْ كان ليس فوقه غيرُه. وقد عَلِمْتَ أنه مَن فرَّط في سخْرَة الملوك أهلكوه. فلا تجعلْ للهلاك على نفسك سلطانًا ولا سبيلًا. وإياك — إذا كنتَ واليًا — أنْ يكونَ من شأنك حبُّ المدح والتزكيةِ، وأنْ يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثُلْمَةً٤ من الثُّلَمِ يتقحَّمون عليك منها، وبابًا يفتتحونك منه، وغيبةً يغتابونك بها ويضحكون منك لها. واعلم أنَّ قابِلَ المدح كمادح نفسه. والمرءُ جديرٌ أنْ يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رَدِّه. فإِنّ الرادَّ له محمود، والقابِلَ له مَعِيبٌ. بَابُ لِتَكنْ حاجَتُك في الولاية إلى ثلاثِ خصال: رِضَى ربك، ورِضَى سلطان — إنْ كان فوقك — ورِضَى صالح مَن تَلِي عليه. ولا عليك أنْ تلهو عن المال والذِّكْر، فسيأتيك منهما ما يحسنُ ويطيب ويُكتفى به. واجعل الخصالَ الثلاث منك بمكانِ ما لا بُدَّ لك منه. واجعل المال والذِّكْر بمكان ما أنت واجد منه بُدًّا. بَابُ اعرَفِ الفضلَ في أهل الدين والمُرُوءة في كل كُورة٥ وقَرْيةٍ وقبيلة. فلْيكونوا هم إخوانَك وأعوانَك وأخدانَك وأصفياءَك وبطانَتَك ولطفاءَك وثِقاتِك وخُلَطاءك ولا تَقذِفنَّ في رُوعِك أنك إنْ استشرت الرجال، ظهر للناس منك الحاجةُ إلى رأي غيرك. فإنّك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكنَّما تريده للانتفاع به. ولو أنك مع ذلك أردت الذكر، كان أحسن الذكرين وأفضلهما عند أهل الفضل والعقل أنْ يقال: لا يتفرَّد برأيه دُون استشارة ذوي الرأي. إنك إنْ تلتمس رِضَى جميعِ الناس، تلتمسْ ما لا يُدْرَكُ. وكيف يتَّفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجَتُك إلى رِضَى مَنْ رِضاهُ الجَوْر، وإلى مُوافَقَة مَنْ مُوَافَقَتُه الضلالةُ والجهالة؟ فعليك بالتماس رِضَى الأخيار منهم وذوي العقل. فإنَّك متى تُصِب ذلك، تَضَعْ عنك مَؤونة ما سواه. بَابُ لا تُمَكِّنْ أهل البلاء الحَسَن عندك من التدلُّل٦ عليك، ولا تُمكِنَنَّ مَن سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم٧. لِتَعْرِفْ رعيَّتُك أبوابك التي لا يُنال ما عندك من الخير إلَّا بها، والأبوابَ التي لا يَخافُك خائف إلَّا من قِبَلها. احرص الحِرصَ كلَّه على أنْ تكون خابرًا أمورَ عُمَّالك. فإنَّ المُسيء يَفْرَق٨ من خُبْرتك قبل أنْ يُصيبَهُ وَقْعُك به وعُقوبتك؛ وإنَّ المُحْسِن يستبشر بعلمك قبل أنْ يأتيه مَعروفُك. لِيعرف الناسُ، فيما يعرفون من أخلاقك، أنك لا تُعاجِلُ بالثواب ولا بالعقاب! فإنَّ ذلك هو أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي. بَابُ عوِّدْ نفسك الصبرَ على مَن خالفك من ذوي النصيحة، والتجرُّعَ لمرارة قولهم وعذْلهم، ولا تُسهِّلنَّ سبيل ذلك إلَّا لأهل العقل والسِّنِّ٩ والمروءة، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترِئُ به سفيه أو يَسْتَخِفُّ به شانِئ١٠. بَابُ لا تتركَنَّ مباشرة جسيم أمرك فيعودَ شأنُك صغيرًا؛ ولا تُلزمن نفسك مباشرة الصغير، فيصيرَ الكبيرُ ضائعًا. واعلم أنَّ مَالكَ لا يُغني الناسَ كلهم، فاخصص به أهل الحقّ؛ وأنَّ كرامتك لا تُطيق العامَّةَ كلها١١، فتَوَخَّ بها أهل الفضل؛ وأنَّ قلبك لا يتسع لكل شيء، ففرِّغه للمهم؛ وأنَّ ليلك ونهارك لا يستوْعبان حاجاتك (وإنْ دأبتَ فيهما)؛ وأنْ ليس لك إلى إدامة الدأب فيهما سبيلٌ مع حاجة جسدك إلى نصيبه منهما. فأحْسِنْ قسمتهما بين عملك ودَعَتِك. واعلم أنَّ ما شَغَلْتَ من رأيك بغير المهم أزرَى بك في المهم، وما صَرَفْتَ من مالك في الباطل فَقَدْتَهُ حين تُريدُهُ للحقّ، وما عدَلْتَ به من كرامتك إلى أهل النقص أضرَّ بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغَلتَ من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك عند الحاجة منك إليه. اعلم أنَّ من الناس ناسًا كثيرًا يبلغ من أحدهم الغضبُ — إِذا غَضِب — أنْ يحمله ذلك على الكُلُوح١٢ والقُطُوب١٣ في وجه غير مَن أغضَبَه، وسوءِ اللفظ لمَن لا ذنْبَ له، والعقوبةِ لمن لم يكن يَهِمُّ بمعاقبته، وشدَّةِ المعاقبة باللسان واليدِ لمَنْ لم يكن يُريد به إلَّا دُونَ ذلك. ثم يبلغ به الرِضَى — إذا رضي — أنْ يتبرَّع بالأمر ذي الخطر١٤ لمَنْ ليس بمنزلة ذلك عنده، ويُعطي مَن لم يكن يُريد إعطاءَه، ويُكْرِمَ مَنْ لم يُرد إكرامه ولا حقَّ له ولا مودَّةَ عنده. فاحذر هذا الباب الحذَرَ كلَّه! فإنّه ليس أحدٌ أسوأَ فيه حالًا من أهل السلطان الذين يُفْرِطون باقتدارهم في غضبهم وبتسرَّعهم في رضاهم. فإنّه لو وُصِفَ بهذه الصفة مَن يُلْتَبَسُ بعقله أو يتخبَّطه المَسُّ أنْ يُعاقِبَ عند غضبه غيْرَ مَن أغضبه ويَحْبو عند رضاه غير مَن أرضاه، لكان جائزًا ذلك في صفته. بَابُ اعلم أنَّ المُلك ثلاثةٌ: مُلْكُ دِينٍ، ومُلْكُ حزمٍ، ومُلْكُ هوًى. فأمَّا مُلْكُ الدِّين فإنه إذا أقام للرعية دينهم — وكان دينهم هو الذي يُعطيهم الذي لهم ويُلْحِق بهم الذي عليهم — أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم. وأمَّا مُلْكُ الحزم فإنه يقوم به الأمر ولا يَسْلَمُ من الطعن والتسخُّط. ولن يَضُرَّ طعنُ الضعيف مع حزم القويِّ. وأمَّا مُلْكُ الهوى فَلَعِبُ ساعةٍ ودَمارُ دهرٍ. بَابُ إذا كان سلطانك عند جِدَّةِ١٥ دولةٍ، فرأيتَ أمرًا استقام بغير رأي، وأعوانًا أجْزَوا١٦ بغير نَيْل، وعملًا أَنْجَح١٧ بغير حزم، فلا يغرَّنك ذلك ولا تَسْتَنِيمَنَّ إليه. فإن الأمر الجديد رُبَّما يكون له مهابةٌ في أنفس أقوام وحلاوةٌ في قلوب آخرين، فيُعينُ قومٌ على أنفسهم ويعين قومٌ بما قِبَلَهم. ويَسْتَتِبُّ ذلك الأمر غيرَ طويلٍ، ثم تصير الشؤُون إلى حقائقها وأصولها. فما كان من الأمور بُنِي على غير أركانٍ وثيقةٍ ولا دعائمَ مُحكمة، أوْشَكَ أنْ يتداعَى ويتصدَّعَ. لا تكوننَّ نَزْر الكلام والسلام، ولا تبلُغنَّ بهما إفراط الهشاشة والبشاشة. فإنَّ إحداهما من الكِبْر والأخرى من السُّخْفِ. بَابُ إذا كنتَ إنما تضبط أمورك وتصولُ على عدوِّك بقومٍ لستَ منهم على ثِقةٍ من دِينٍ ولا رأي ولا حِفاظٍ من نيَّة، فلا تفعلْ نافلةً١٨، حتى تحمِلهم — إنْ استطعت — على الرأي والأدب الذي بمثله تكون الثقة، أو تستبدِلَ بهم، إِنْ لم تستطع نقلهم إلى ما تريد. ولا تَغُرَّنك قوَّتُك بهم على غيرهم. فإنَّما أنت في ذلك كراكبِ الأسد الذي يَهَابُهُ مَن نظر إليه، وهو لِمَرْكَبه أهْيَبُ. بَابُ ليس للمَلِك أنْ يَغْضَبَ، لأنَّ القُدرة من وراء حاجته. وليس له أنْ يكذِبَ، لأنه لا يقدِر أحد على استكراهه على غير ما يُريد. وليس له أنْ يبخل، لأنه أقل الناس عذرًا في تخوُّف الفقر. وليس له أنْ يكونَ حَقُودًا، لأنّ خَطَرَه١٩ قد عَظُم عن مجاراة كل الناس. وليس له أنْ يكون حلَّافًا. لأن أحق الناس باتقاء الأيمان الملوكُ، فإنما يَحمل الرجل على الحَلِف إحدى هذه الخصال: إمَّا مَهانة٢٠ يجدها في نفسه، وضَرَعٌ٢١ وحاجة إلى تصديق الناس إياه؛ وإمَّا عِيٌّ٢٢ بالكلام، فيجعلُ الأيمانَ له حَشْوًا ووصلًا؛ وإمَّا تُهمةٌ قد عرفها من الناس لحديثه٢٣ ، فهو يُنْزِل نفسَه منزِلةَ مَنْ لا يُقبَل قولُهُ إلَّا بعد جَهْد اليمين٢٤ ؛ وإمَّا عَبَثٌ٢٥ بالقول وإرسالٌ لِلِّسان على غير رَوِيَّة ولا حُسْن تقديرٍ، ولا تعويدٍ له قولَ السَّداد والتثبُّتَ. بَابُ لا عَيْبَ على المَلِك في تعيُّشه وتنعمه ولَعِبِهِ ولَهْوِهِ، إذا تعاهد٢٦ الجسيمَ من أمره بنفسه وأحكمَ المهمَّ، وفوَّض ما دُونَ ما دُون ذلك إلى الكُفاة٢٧ . كلُّ أحدٍ حقيق — حين ينظر في أمور الناس — أنْ يتَّهِمَ نَظرَهُ بعين الريبة٢٨ ، وقلبَه بعين المقت٢٩. فإنهما يُزيِّنان الجَوْر، ويحملان على الباطل، ويُقَبِّحان الحَسن، ويُحسِّنان القبيح. وأحقٌّ الناس باتّهام نظره بعيْن الرِيبة وعيْن المقتِ السلطانُ الذي ما وقع في قلبه رَبَا٣٠ مع ما يُقَيض له من تزيين القُرَناء والوزراء. وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل؛ الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمرًا نافذًا غيرَ مردود. لِيعلم الوالي أنَّ الناس يَصِفُون الوُلاة بسُوءِ العهد ونِسيان الوُدّ، فلْيُكابِر نقْضَ قولهم، ولْيُبطل عن نفسه وعن الوُلاة صفات السوء التي يُوصفون بها. بَابُ حقُّ الوالي أنْ يتفقَّد لطيف أمور رعيته، فضلًا عن جسيمها، فإن لِلَّطيف موضعًا يَنْتفِع به، وللجسيم موضعًا لا يَستغني عنه. لِيتفقَّد الوالي — فيما يتفقد من أمور رعيته — فاقة الأخيار والأحرار منهم، فلْيعمَلْ في سَدِّها! وطُغْيانَ السْفَلة منهم، فليقمَعْه! ولْيَسْتَوحش من الكريم الجائع واللئيم الشبعان! فإنّما يَصُول الكريمُ إذا جاع، واللئيم إذا شبِع. بَابُ لا ينبغي للوالي أنْ يحسُدَ الولاة إلَّا على حسن التدبير. ولا يحسُدنَّ الوالي مَن دونه. فإنّه أقلُّ في ذلك عُذرًا من السُّوقة التي إنما تحسُدُ مَن فوقها. وكُلٌّ لا عُذْرَ له. بَابُ لا يلومنَّ الوالي على الزَّلَّة مَنْ ليس بمُتَّهَم عنده في الحرص على رضاه، إلَّا لَوْمَ أدَبٍ وتقويم! ولا يعدِلنَّ بالمجتهد في رضاه البصير البصير بما يأتي أحدًا! فإنهما إذا اجتمعا في الوزير والصاحب نام الوالي واستراح، وجُلِبت إليه حاجاته، وإنْ هدأ عنها، وعُمِل له فيما يُهمُّه وإنْ غَفَلَ. لا يُولعَنَّ الوالي بسوء الظنِّ لقول الناس، ولْيجعل لحُسن الظن من نفسه نصيبًا موفورًا يروِّح به عن قلبه ويُصدِر عنه في أعماله! لا يُضيِّعَنَّ الوالي التثبُّت عندما يقول، وعندما يُعطي، وعندما يَعْمل. فإنَّ الرجوعَ عن الصمت أحسنُ من الرجوع عن الكلام؛ وإنَّ العطيَّة بعد المنع أجملُ من المنع بعد الإعطاء؛ وإنَّ الإقدام على العمل بعد التأنِّي فيه أحسنُ من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه. وكلُّ الناس محتاجٌ إلى التثبت. وأحوجهم إليه ملوكُهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافعٌ، وليس عليهم مستحِثٌّ. بَابُ لِيعلم الوالي أنَّ من الناس حُرَصاءَ على زِيِّه٣١، إلَّا مَن لا بالَ له! فلْيَكُنْ للدِّين والبرِّ والمُرُوءَة عنده نَفاق، فيُكسِدُ بذلك الفُجُورَ والدناءةَ في آفاق الأرض! بَابُ جُمَاع٣٢ ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا رأيان: رأي يُقَوِّي به سلطانَه، ورأيٌ يُزيِّنه في الناس. ورأي القوة أحقهما بالبُداءة وأوْلاهما بالأَثَرة٣٣. ورأي التزيين أحضرهما حلاوةً وأكثرهم أعوانًا. مع أنَّ القوَّة من الزينة، والزينة من القوة. ولكنَّ الأمر يُنْسَب إلى مُعْظَمِه وأصله. لفظة السلطان في كتابات المتقدمين "وفي جملتهم ابن المقفع" لغاية عصر الخليفة هارون الرشيد لا تدل على المعنى المعروف في أيامنا هذه. بل تدل فقط على السلطة وولاية أمور الناس وتدبير أمور الجمهور. ثم اطلقوها على كل إنسان يتولى شيئًا من أعمال الحكومة. فهي عند المتقدمين بمعنى الوالي والحاكم وصاحب الأمر. وهارون الرشيد هو أول من اعطى لقب السلطان لوزيره جعفر، تشريفًا له على سائر البرامكة الذين كانوا يلقبون بالملوك "كما أفاده في صبح الأعشى — في باب الألقاب". ولكن اللقب بنو بويه وبنو سلجوق عند استبدادهم بالخلافة العباسية ببغداد. ومن هنا لك انتقل هذا اللقب إلى سلاطين آل عثمان وإن كان أهل مصر لم مترفوا لهم بهذا اللقب إلا بعد أن فتح الترك ديار مصر وانتعوها من المماليك. وذلك أن أهل مصر في أيام الفاطميين كانوا يسمون الوزراء بالملوك وبألقاب أخرى هي في منتهى التفخيم وقد روى أن أحد من الوزراء تولى الإسكندرية فكان لقبه سلطان الملوك واستمر الحال على ذلك حتى تولى الناصر صلاح الدين وزارة مصر في أيام الخليفة الأخير من الفواطم فتلقب بالسلطان تشبها بنور الدين الشهيد. وعنه انتقل هذا اللقب إلى الأبوين فالمماليك البحرية فالمماليك البرجية. وفي أثناء هذه الدولة الأخيرة ارتفع شأن الدولة العثمانية بفتح القسطنطينية فكان سلاطين مصر وأهلها يخاطبون صاحب التاج فيها بلفظ الأمير في الرسميات وأما الكتاب والمؤرخون فكانوا يعبرون عنهم بابن عثمان فقطر. وبقي الحال على ذلك حتى افتتح العثمانيون بلاد مصر فانحصر اللقب فيهم إلى الآن بأوسع معانيه، أي ملك الملوك ، كما كانت الحال في مصر قبل زوال دولتها على عهد الغوري رحمه الله. هكذا وردت هذه الكلمة في جميع النسخ ولعل الصواب "العيب". وبذلك يستقيم المعنى. أي الراحة والسكون. الثلمة ج تلم الحلل في الحائط وغيره وهي الفرجة التي تكون في الحائط وما شابهه بسبب الهدم أو الكسر. الكورة بضم الكاف الصقع. وذلك من التقاسيم الجغرافية القديمة مثل الرستاق في بلاد فارس والمخلاف في بلاد اليمن والجند في بلاد الشام. وكما نقول الآن مديرية، فيما يختص بأرض مصر. والكورة لفظة فارسية محتة "أي بحتة" استعارها العرب كما استعاروا لفظة الإقليم عن الأغارقة. وهي عندهم دليل على كل صقع يشتمل على عدة من القرى التي تُضاف إلى قصبة أو بندور أو مدينة أو نهر مما يكون اسمه على الكورة كلها. التدلل "بالدال المهملة" هو افراط الإنسان على أخيه للوثوق بمحبته وميله. يقال عاب له كعابه "تفسير للأمير شكيب". يخاف. وفي نسختنا: الستر. وقد اختزن رواية ش. أي مبغض. في النسخة السلطانية: حملها. "وبفتح اللام" فصححناها على حسب ما اقتضاه المقام وانتظام السياق. ولم يرد هذا الحرف في بقية النسخ. الكلوح والكلاح "بضم الكاف فيهما" التكشر في عبوس. القطوب هو الجمع بين العينين في حالة الغضب. العظيم القدر والقيمة. أي في حالة الظهور والارتفاع. أي أغنوا عن غيرهم بدون أجر يقابل عملهم أو يعادله. نجح يستعمل لما لا يعقل، فيقال نجحت الحاجة ويقال أيضًا أنجحت وأنجحها الله تعالى أي صلحت وصحت. وأما أنجح فإن استعماله خاص بمن يعقل بمعنى فاز وأدرك غرضه. النافلة ما يفعله الإنسان مما ليس بواجب عليه. ويقابلها عند الفرنساوية "Euvre Surogatoire" وقد ورد في ش: "فلا تنفعك نافعة" أي قدره وجاهه. المذلة. الخضوع والاستكانة. هو عدم اهتداء الإنسان لوجه مراده، أو عجزه عنه، أو عدم قدرته على التلفظ للكنة في لسانه. أي علمه بأن الناس لا يصدقون حديثه بل يتهمونه فيه. أي المبالغة في اليمين. قال تعالى: "وجهد إيمانهم" أي بالغوا في اليمين واجتهدوا. أي خلط. تعهد الشيء وتعاهد أي تفقده. أي الذين يكفونه ذلك. وهذا اللفظ جمع، ومفرده كاف. وأما الأكفاء "بسكون الكاف وفتح الفاء" فمفرده كفء ومعناه الذي توفرت فيه الكفاءة. بكسر الراء أي التهمة والظنة وهي بمعنى الريب "بفتح الراء وسكون الياء". البعض. أي زاد. أى الشبه به في هيئته. ما جمع عددًا فجعله مجموعًا. فالمعنى جميع ما يحتاج إليه الوالي إلخ. وفي الحديث الشريف: "أوتيت جوامع الكلم" أي القرآن. وأيضًا: "كان يتكلم بجوامع الكلام" أي كان كثير المعاني قليل الألفاظ. أي الاختيار والتفضيل بَابُ إنْ ابتُليتَ بصحبة السلطان، فعليك بطول المواظبة١ في غير معاتبة، ولا يُحْدِثَنَّ لك الاستئناسُ به غفلةً ولا تهاونًا. إذا رأيتَ السلطان يجعلك أخًا فاجعله أبًا، ثم إِن زادك فزِدْهُ. بَابُ إنْ استطعتَ ألَّا تصحَبَ مَن صَحِبْت مِنَ الولاة إلَّا على شُعْبة من قرابة أو مودَّة فافعل. فإن أخطأك ذلك، فاعلم أنك إنّما تعمل على السُّخْرة. بَابُ إنْ استطعت أنْ تجعل صُحْبَتَك لمن قد عَرَفَك بصالح مُرُوءَتك وصحَّة دِينك وسلامة أُمورك قبل ولايته فافعل. فإنَّ الوالي لا عِلْمَ له بالناس إلَّا ما قد عَلِمَ قبل ولايته. أمَّا إذا وَلي، فكلُّ الناس يلقاه بالتزيُّن والتصنُّع، وكلهم يحتال لأنْ يُثنَى عليه عنده بما ليس فيه. غير أنَّ الأنذال والأرذال هم أشدُّ لذلك تصنُّعًا وأشدُّ عليه مثابرة وفيه تمحُّلًا. فلا يمتنع الوالي — وإنْ كان بليغ الرأي والنظر — من أنْ يَنْزِل عنده كثيرٌ من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثيرٌ من الخانة٢ بمنزلة الأُمَنَاء، وكثيرٌ من الغَدَرَة٣ بمنزلة الأوفياء؛ ويغَطَّى عليه أمرُ كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحُّل والتصنُّع. بَابُ إذا عرَفتَ نفسَك من الوالي بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام المَلَق، ولا تُكثرنَّ من الدعاء له في كل كلمة، فإنَّ ذلك شبيهٌ بالوَحْشة والغُربة، إلَّا أنْ تكلِّمه على رءوس الناس، فلا تَأْلُ٤ عمَّا عظَّمه ووقَّره. لا يعرِفنَّك الوُلاةُ بالهوَى في بلدٍ من البُلدان ولا قبيلة من القبائل، فيُوشِكُ أنْ تحتاجَ فيهما إلى حكاية أو شهادة، فتُتَّهم في ذلك. فإذا أردتَ أنْ يُقْبل قولُكَ فصحِّحْ رأيك ولا تَشُوبَنَّه بشيء من الهوى. فإنّ الرأي الصحيح يقبله منك العدوُّ، والهوى يردُّه عليك الولَد والصديق. وأحقُّ مَن احترستَ منه من أنْ يظُنَّ بك خَلْطَ الرأي بالهوى الولاةُ. فإنَّها خديعة وخيانة وكُفر عندهم. بَابُ إنْ ابتُليتَ بصحبة والٍ لا يُريد صلاح رعيّته، فاعلم أنك قد خُيرتَ بين خَلَّتين ليس منهما خِيَارٌ: إمَّا الميل مع الوالي على الرعيَّة، وهذا هلاك الدِّين؛ وإمَّا الميل مع الرعيَّة على الوالي، وهذا هلاك الدنيا. ولا حيلةَ لك إلَّا الموتُ أو الهَرَب. واعلم أنه لا ينبغي لك — وإنْ كان الوالي غير مرضيَّ السيرة، إذا عَلِقَتْ حبالُك بحباله — إلَّا المحافظة عليه، إلَّا أنْ تجدَ إلى الفِراق الجميل سبيلًا. تَبَصَّرْ ما في الوالي من الأخلاق التي تُحِبُّ له والتي تَكْرَهُ، وما هو عليه من الرأي الذي تَرْضَى له والذي لا ترضى. ثم لا تُكابِرَنَّه بالتحويل له عما يُحبُّ ويَكرَه إلى ما تُحبُّ وتَكْرَه، فإنَّ هذه رياضة صَعبة تحمِلُ على التنائي٥ والقِلَى٦. فإنك قلَّما تقدِرُ على ردِّ رجلٍ عن طريقةٍ هو عليها بالمكابرة والمناقضة، وإنْ لم يكن ممن يجمحُ به عزُّ السلطان. ولكنَّك تقدر على أنْ تُعينه على أحسن رأيه، وتُسَدِّدَه فيه وتُزَيِّنَه، وتُقَوِّيه عليه. فإذا قَوِيتْ منه المحاسنُ، كانت هي التي تكفيك المساوئَ. وإذا استحكمتْ منه ناحية من الصواب، كان ذلك الصواب هو الذي يُبصِّره مواقع الخطأ بألطفَ من تبصيرك وأعدلَ من حُكمك في نفسه. فإنَّ الصوابَ يُؤيِّد بعضُه بعضا، ويدعو بعضه إلى بعض حتى تستحكمَ لصاحبه الأشياء، ويظهرَ عليها بتحكيم الرأي. فإذا كانت له مكانةٌ من الأصالة، اقتلع ذلك الخطأ كلَّه. فاحفظ هذا البابَ وأحْكِمْه! بَابُ لا يكوننَّ طلبُك ما عند الوالي بالمسألة! ولا تستبطئه، وإنْ أبطأ عليك. ولكن اطلُبْ ما قِبَلهُ بالاستحقاق له، واسْتَأْنِ به وإنْ طالت الأناة منه. فإنك إذا استحققته، أتاك عن غير طلب وإنْ لم تستبطئه، كان أعْجَلَ له. بَابُ لا تُخبرنَّ الوالي أنَّ لك عليه حقًّا، وأنك تعتدُّ عليه ببلاءٍ. وإنْ استطعت ألَّا ينسى حقَّك وبلاءك فافعل. ولْيكُن ما يُذَكِّره به من ذلك تجديدُك له النصيحةَ والاجتهاد، وأن لا يزالَ ينظْرُ منك إلى آخر يُذَكِّره أوَّلَ بلائك. واعلمْ أنَّ السلطان إذا انقطع عنه الآخِرُ، نسي الأوَّل، وأنَّ أرحامُهم مقطوعةٌ وحبالهم مصرومةٌ، إلَّا عمَّن رضوا عنه وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم. إياك أنْ يقعَ في قلبك تعتُّبٌ على الوالي أو استزراءٌ لهّ! فإنه إيُّ أَثَرٍ وقع في قلبك، بَدَا في وجهك، إنْ كنت حليمًا؛ وبدا على لسانك إنْ كنت سفيهًا. فإن لم يَزِدْ ذلك على أنْ يَظهرَ في وجهك لآمَنِ الناس عندك، فلا تأمننَّ أنْ يظهر ذلك للوالي. فإنَّ الناس إلى السلطان بعَوْرات الإخوان سِرَاعٌ، فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبُه هو أسرعَ إلى النفور والتغيُّر من قلبك. فَمَحَق٧ ذلك حسناتِك الماضية، وأشرف بك على الهلاك، وصرت تعرف أمرَك مستدبرًا، وتلتمِس مرضاة سلطانك مستصعِبًا. ولو شئتَ، كنتَ تركتَه — بإذن الله — راضيًا. وازددتَ من رضاه دُنُوًّا. بَابُ اعلم أنَّ أكثر الناس عدوًّا جاهدًا٨ حاضرًا جريئًا واشيًا وزيرُ السلطان ذو المكانة عنده. لأنه منفوسٌ٩ عليه مكانُه بما يُنْفسُ١٠ على صاحب السلطان، ومحسودٌ كما يُحْسد. غير أنه يُجْتَرأ عليه، ولا يُجْتَرأ على السلطان؛ لأنَّ من حاسديه أحْيَاءَ١١ السلطان وأقاربَهُ الذين يشاركونه في المَداخل والمَنازل. وهم وغيرهم من عَدُوِّه حُضَّورٌ، وليسوا كعدوِّ السلطان النائي عنه والمُكْتَتِم منه، وهم لا ينقطع طمعهم من الظفر به. فلا يَغْفُلُون عن نَصْب الحبائل له. فاعرِفْ هذه الحال، والْبَس لهؤلاء القوم — الذين هم أعداؤُك — سلاحَ الصحة والاستقامة، ولُزُومَ المَحَجَّة١٢ فيما تُسرُّ وتُعلِنُ. ثم رَوِّحْ عن قلبك حتَّى كأنك لا عدوَّ لك ولا حاسد. وإنْ ذكَرَك ذاكرٌ عند السلطان بسوءٍ في وجهك أو في غَيْبَتِك، فلا يَرَينَّ السلطان ولا غيرُهُ منك اختلاطًا لذلك ولا اغتياظًا ولا ضجرًا؛ ولا يَقَعَنَّ ذلك في نفسك موقع ما يُكْرِثك١٣. فإنه إنْ وقع منك ذلك الموْقِعَ، أدخل عليك أمورًا مشتبهة بالرِّيبة، مُذكِّرة لما قال فيك العائبُ. وإنْ اضطرَّك الأمرُ في ذلك إلى الجواب، فإيَّاك وجوابَ الغَضَب والانتقام! وعليك بجواب الحُجَّة في حِلمٍ ووقار! ولا تَشُكَّنَّ في أنَّ الغَلَبَةَ والقوَّةَ للحليم أبدًا. لا تتكلَّمَنَّ عند الوالي كلامًا أبدًا إلَّا لعناية، أو يكون جوابًا لشيء سُئِلتَ عنه. ولا تُحضِرنَّ عند الوالي كلامًا أبدًا لا تُعْنَى به، أو تُؤمر بحضوره. ولا تَعُدَّنَّ شَتْم الوالي شتمًا، ولا إغْلاظه إغْلاظًا، فَإن ريح العِزَّة قد تَبْسُط اللسان بالغِلظة في غير سُخطٍ ولا بأس. بَابُ جانِبِ المسخوط عليه والظنِينَ١٤ به عند السلطان. ولا يجمعنَّك وإياه مجلسٌ ولا منزلٌ! ولا تُظهِرنَّ له عُذْرًا، ولا ولا تُثْنِيَنَّ عليه خيرًا عند أحد من الناس! فإذا رأيته قد بَلَغَ من الإعْتاب١٥ مما سُخِط عليه فيه ما ترجُو أنْ تُلِينَ له به قلب الوالي، واستَيْقنت أنَّ الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه وشدَّتِك عليه عند الناس، فضعْ عُذْره عند الوالي واعْمَل في إرضائه عنه، في رفقٍ ولطفٍ. لِيَعْلم الوالي أنك لا تستنكِفُ عن شيء من خدمته. ولا تَدَعُ مع ذلك أنْ تُقدِّم إليه القولَ — على بعض حالات رضاهُ وطِيب نفْسِهِ — في الاستعفاء من الأعمال التي هي أهلٌ أنْ يَكْرَهَهَا ذو الدِّين وذو العقل وذو العِرْض وذو المروءة: من ولايةِ القتل والعذاب وأشباه ذلك. إذا أصبتَ الجاهَ والخاصة عند السلطان، فلا يُحْدِثنَّ لك ذلك تغيُّرًا على أحد من أهله وأعوانه، ولا استغناء عنهم؛ فإنك لا تدري متى تَرى أدنَى جفوة أو تغيُّر فتذِلَّ لهم فيها. وفي تلوُّن الحال عند ذلك من العار ما فيه. لِيكنْ مما تُحْكِمُ من أمرك ألَّا تسارَّ أحدًا من الناس ولا تهمِسَ إليه بشيء تُخفيه على السلطان أو تُعلنُه. فإنَّ السِّرَار١٦ مما يُخيِّل إلى كل من رآه من ذي سلطان أو غيره أنه المرادُ به. فيكون ذلك في نفسه حَسِيكة١٧ ووغرًا١٨ وثُقْلًا. بَابُ لا تتهاوننَّ بإرسال الكَذْبَةِ١٩ عند الوالي أو غيره في الهزل، فإنها تُسرع في إبطال الحق وردِّ الصدق مما تأتي به. تنكَّبْ فيما بينك وبين السلطان، وفيما بينك وبين الإخوان، خُلُقًا قد عَرَفناه في بعض الوزراء والأعوان وأصحاب الأبَّهات٢٠ في ادعاء الرجُلِعندما يَظْهَرُ من صاحبه حُسْن أثر أو صوابِ رأي — أنه عَمِل في ذلك وأشار به، وإقرارِه بذلك إذا مدحه به مادحٌ. بل٢١ وإنْ استطعتَ أن تُعرِّف صاحبك أنك تَنْحَلُهُ صوابَ رأيك — فضلًا عن أنْ تدَّعِيَ صوابه — وتسنِدَ ذلك إليه وتزيِّنه به فافعل. فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثرُ مما أنت مُعطٍ بأضعاف. بَابُ إذا سأل الوالي غيرَك فلا تكوننَّ أنت المُجيبَ عنه. فإن اسْتِلابَك الكلامَ خِفَّةٌ بك، واستخفاف منك بالمسؤول وبالسائل. وما أنت قائلٌ إنْ قال لك السائل: ما إياك سألتُ! أو قال لك المسؤُول عند المسألة يُعادُ٢٢ له بها: دونك فأجب! وإذا لم يقصد السائل في المسألة لرجل واحد وعَمَّ بها جماعة مَن عنده، فلا تُبادرنَّ بالجواب، ولا تُسابق الجُلَساء، ولا تُواثِبْ بالكلام مواثبةً. فإن ذلك يجمع مع الشَّيْنِ التكلُّفَ والخِفَّةَ. فإنّك إذا سبَقْتََ القومَ إلى الكلام، صاروا لكلامِكَ خُصَمَاء٢٣ فتعقبوه بالعيب والطعن. وإذا أنت لم تعجَل بالجواب وخليته للقوم، اعْتَرَضتَ أقاويلهم على عينك، ثم تَدَبَّرتها وفكَّرْتَ فيما عندَك، ثم هيَّأت من تفكيرك ومحاسنِ ما سمعتَ جوابًا رضيًّا، ثم استدبرتَ به أقاويلهم حين تُصِيخُ إليك الأسماعُ ويهدأ عنك الخصومُ٢٤. وإنْ لم يَبْلُغْكَ الكلام حتى يُكْتَفَى بغيرك، أو ينقطعَ الحديث قبلَ ذلك، فلا يكونُ من العَيْبِ عنِدَك ولا من الغَبْنِ في نفسك فَوْتُ ما فاتك من الجواب. فإنَّ صيانَة القول خيرٌ من سوء وضعه، وإنَّ كلمةً واحدةً من الصَّواب تُصيبُ موضِعَها خيرٌ من مائة كلمة تقولُها في غير فُرَصِها ومواضعها. مع أنَّ كلام العَجَلة والبدارِ٢٥ مُوَكَّلٌ به الزَّلل وسوءُ التقدير، وإنْ ظنَّ صاحبُه أنَّه قد أتقنَ وأحكم. واعلم أنَّ هذه الأُمور لا تُدْرَك ولا تُمْلَك إلَّا برُحْبِ الذَّرْع عند ما قيل وما لم يُقَل، وقلَّةِ الإعظام لما ظهر من المُرُوءَة أو لم يَظْهَر، وسَخاوَةِ النفس عن كثيرٍ من الصَّواب، مخافة الخلاف ومَخَافَة العَجَلَة ومخافة الحَسَد ومَخَافَة المِرَاءِ. بَابُ إذا كلَّمك الوالي فأصغِ إلى كلامه. ولا تَشْغَل طَرْفَك٢٦ عنه بنظرٍ إلى غيره، ولا أطرافك٢٧ بعملٍ، ولا قلبك بحديث نفس. واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعاهدْها بجهدك. بَابُ ارْفُقْ بنُظَرائك من وزراء السلطان وأَخِلَّائِهِ ودُخلائه. واتَّخذهم إخوانًا ولا تتَّخذهم أعداءً. ولا تنافِسْهم في الكلمة يتقربون بها أو العمل يُؤمَرون به دُونك. فإنِّما أنت في ذلك أحدُ رجلين: إمَّا أنْ يكونَ عندك فَضْلٌ على ما عندَ غيْرِك، فسَوْف يبدو ذلك ويُحتاج إليه ويُلتمسُ منك، وأنت مُجْمِلٌ٢٨. وإمَّا أن لا يكون ذلك عندك، فما أَنْتَ مُصيبٌ من حاجتك عند وزراء السلطان بمُقارَبتك وملائمتك إيَّاهم ومُلاينتِك. وما أنت واجدٌ في موافقتك إيَّاهم ولِينك لهم من مُوافقتهم إياك ولِينهم لك أفضل ممَّا أنت مُدْرِكٌ بالمنافسة والمنافرة لهم. لا تَجْتَرِئَنَّ على خِلاف أصحابك عند الوالي، ثِقةً باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك. فإنَّا قد رأَيْنَا الناسَ يَعْتَرِفون بفضل الرجل وينقادون له ويتعلَّمون منه، وهم أخْلِيَاءٌ. فإذا حَضَرُوا السلطان، لم يَرْضَ أحدٌ منهم أنْ يُقِرَّ له ولا أنْ يكون له عليه في الرأي والعِلْم فضلٌ، فاجتَرَأوا عليه بالخلاف والنَّقْض. فإِنْ ناقضهم، صار كأحدهم. وليس بواجدٍ في كل حين سامعًا فَهِمًا أو قاضيًا عَدْلًا. وإنْ تَرَكَ مناقضتهم، كان مغلوبَ الرَّأي مردودَ القول. إذا أَصبْتَ عند السلطان لُطْفَ منزلة — لغَناء٢٩ يَجِده عندك أو هوًى يكون له فيك — فلا تَطْمحنَّ كلَّ الطِّماح ولا تُزيِّننَّ لك نفسُك المزايلة له عن أليفه وموضع ثقته وسرِّه قَبْلَك، تُريدُ أنْ تقْلَعه وتَدْخُل دونه. فإنَّ هذه خَلَّة من خلال السَّفَهِ قد يُبْتلَى بها الحُلماءُ عند الدُّنُوِّ من السلطان حتى يُحدِّثَ الرجل منهم نفسَهُ أنْ يكونَ دُونَ الأَهْلِ والولد: لفضلٍ يظُنُّه بنفسه أو نقصٍ يَظُنُّه بغيره. ولكلِّ رجلٍ من الملوك أو ذوي هيئةٍ من السُّوقة أليفٌ وأنيسٌ، قد عَرَفَ رُوحه رُوحه واطَّلع قلبه على قلبه، فليستْ عليه مَؤونة في تبذُّل يتبذَّلُه عنده، أو رأيٍ يسْتَبِين٣٠ منه، أو سرٍّ يفشيه إليه. غير أنَّ تلك الأنَسَة وذلك الإلْف يَسْتخرج من كل واحد منهما ما لم يكن ليظهرَ منه عند الانقباض والتشدُّد. ولو التمس مُلتمسٌ مثل ذلك عند مَن يستأنِف٣١ ملاطفته ومؤانسته ومناسمته٣٢ — وإنْ كان ذا فضل في الرّأي وبَسْطةٍ في العلم — لم يجِدْ عنده مِثْلَ ما هو مُنتفِعٌ به ممَّن هو دون ذلك في الرأي ممن قد كُفي مؤانستَهُ ووقع على طباعه. لأنَّ الأنَسَةَ رَوْحٌ٣٣ للقلوب، وأنَّ الوَحْشَةَ رَوْعٌ٣٤ عليها. ولا يَلْتَاطُ٣٥ بالقلوب إلَّا ما لانَ عليها. ومَنِ استقبل الأُنس بالوحشة استقبلَ أمرًا ذا مؤونة٣٦. فإذا كلَّفتْك نفسُك السُّمُوَّ إلى منزلة من وصفتُ لك، فاقْدَعْها٣٧ عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس. وإذا حدَّثْتك نفسك أو غيرُك — ممن لعلَّهُ أنْ يكون عنده فضل في مُرُوءة — أنك أولى بالمنزلة عند السلطان من بعض دُخلائه وثقاته، فاذكر الذي على السلطان من حقِّ أليفه وثقته وأنيسه في التكرِمة والمكانة والرأي، والذي يُعينه على ذلك من الرأي الذي يَجِدُه عند من الأليف والأنيس مما ليس واجدًا عند غيره. فليكنْ هذا مما تتحفَّظُ فيه على نفسك وتعرِفُ فيه عذر السلطان ورأيه. والرأي لنفسك مِثْلُ ذلك، إنْ أرادك مُريدٌ على الدخول دون أليفك وأنيسك وموضع ثقتك وسِرِّك وجِدِّك وهزلك. واعلم أنه يكاد يكون لكل رجل غالبة٣٨ حديث لا يزال يُحدِّث به: إمَّا عن بلد من البُلدان أو ضَرْبٍ من ضروب العلم أو صِنف من صنوف الناس أو وجه من وجوه الرأي. وعندما يُغرَمُ به٣٩ الرجل من ذلك، يبدُو منه السُّخْف ويُعرَف منه الهوىَ. فاجتنبْ ذلك في كل موطن، ثُمَّ عند السلطان خاصَّةً. بَابُ لا تَشْكُوَنَّ إلى وزراء السلطان ودُخَلائِهِ ما اطَّلَعتَ عليه من رأْي تكْرهُهُ له. فإنَّك لا تَزِيد على أنْ تفطِّنَهم لهواه أو تُقرِّبَهم منه وتُغرِيهم بِتَزيين ذلك له والميل عليك معه. بَابُ واعلم أنَّ الرجلَ ذا الجاه عند السلطان والخاصة لا مَحَالَةَ أنْ يَرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناس والأمور. فإذا آثر أنْ يَكْرَهَ كلَّ ما خالفه، أوشك أنْ يمتعِض٤٠ من الجفوة يراها في المجلس، أو النَّبْوَة في الحاجة، أو الرَّد للرأي، أو الإدناء لمن لا يهوَى إدناءَه، أو الإقصاءِ لمن يكْرَهُ إقصاءَه. فإذا وقعتْ في قلبه الكراهية، تغيَّر لذلك وجهه ورأيه وكلامه حتى يبدُو ذلك للسلطان وغيره. فيكون ذلك لفساد منزلته ومُرُوءَته سببًا وداعيًا. فَذلِّلْ نفسَك باحتمال ما خالفك من رأي السلطان، وقرِّرْها على أنَّ السلطان إنما كان سلطانًا لتتَّبِعه في رأيه وهواه وأمرِهِ، ولا تكلِّفه اتِّباعَك وتغضَبَ من خلافهِ إياك. بَابُ اعلم أنَّ السلطان يقبل من الوزراء التبخيل٤١ ويَعُدُّه منهم شفقةً ونظرًا له، ويحمَدهم عليه. فإن كان جوادًا وكنتَ مُبَخِّلًا٤٢، شِنْتَ صاحبك بفساد مُرُوءَته؛ وإنْ كنتَ مُسَخِّيًا، لم تأْمَنْ إضرار ذلك بمنزلتك عنده. فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها، والتماسُ المخلَص من العيْب واللائمة فيما تترك من تبخيل صاحبك بأَنْ لا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلًا إلى شيء من هواك ولا طلبًا لغير ما ترجو أنْ يَزِينَهُ وينفَعَهُ. بَابُ لا تكوننَّ صحبتك للملوك إلَّا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندَك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى ألَّا تكتُمَهم سرَّك ولا تستطلِع ما كتموك، وتُخفي ما أطلعوك عليه على الناس كلِّهم حتى تحميَ٤٣ نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطُّف لحاجتهم، والتثبيت لحُجَّتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلة الامتعاض لما فعلوا إذا أساءُوا، وترك الانتحال لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشْر لمحاسنهم، وحُسْن السَّتر لمساويهم، والمقاربة لمن قاربوا وإنْ كانوا بُعَدَاءَ، والمباعدة لمن باعدوا وإنْ كانوا أَقرباء، والاهتمام بأمرهم وإنْ لم يهتمُّوا به، والحفظ لهم وإنْ ضيَّعوا، والذكر لهم وإنْ نَسُوا، والتخفيف عنهم من مئونتك، والاحتمال لهم كلَّ مَؤُونةٍ، والرضى منهم بالعفو، وقلةِ الرضى من نفسك لهم إلَّا بالاجتهاد. وإِنْ وجدتَ وعن صحبتهم غنًى، فأغْنِ عنهما نفسك، واعتزلْهما جَهْدَك. فإنَّ من يأخذُ عملهم بحقه، يُحَلْ بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومَنْ لا يأخذُ بحقه يحتمل الفضيحةَ في الدنيا والوِزْرَ في الآخرة. بَابُ إنك لا تأمن أنَفَة٤٤ السلاطين إنْ علمتهم، ولا تأمن عقوبتهم إنْ كتمتهم، ولا تأمن سَلْوَتهم٤٥ إنْ حدَّثتهم. وإنَّك إنْ لزمتهم لم تأمن تبرُّمهم٤٦ بك، وإنْ زايلتهم لم تأمن تفقدهم إياك، وإنْ تستأمرهم حملتَ المَؤُونة عليهم، وإنْ قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتَهم. إنك لا تأْمَنُ إن صدقتهم غَضَبَهم، وإِنْ كَذَبتهم سُخطهم. وإنْ سخطوا عليك نسيتَ سُخْطَ الله تعالى، وإنْ رَضُوا عنك تكلَّفت لرضاهم ما لا تُطيق. إن٤٧ كنتَ حافظًا إنْ بَلَوْك٤٨. حَذِرًا٤٩ إنْ قرَّبوك، أمينًا إن ائتمنوك، تُعَلِّمُهُم وأنت تريهم أنك تتعلَّم منهم، وتُؤدِّبُهم وكأنهم يؤدّبونك، تشكرهم ولا تكلِّفُهم الشكرَ، بصيرًا بأهوائهم، مُؤثرًا لمنافعهم، ذليلًا إنْ ظاموك٥٠، راضيًا إنْ أسخطوك: وإلَّا فالبُعْد منهم كل البُعْدِ! والحذر منهم كل الحذر! ش: المرابطة. الأمير شكيب: الرابطة. وإهمال الميم سهو من المطبعة. جمع خائن. مثل الخونة والخائنين. أي الغادرين. أي لا تقصر تقصيرًا. أي التباعد. غاية البعض والكراهة. أي أبطل الحسنات الماضية ومحاها وفي ش : محا. أي مجدا ومجتهدا في العداوة. ومنه من باب المبالغة قولهم "جهد جاهد". أي يتنافسون للحصول على مكانته. والشيء المنفوس هو الذي تكثر الرغبة فيه. أي لا يراه المنافسون آهلا له وجديراً به. أي افراد أسرته وبنو حيه الذين واياه من بطن واحد. وقد اردف المؤلف هذه الكلمة بقوله "وأقاربه" تفسيرًا لمراده. والا فان الأحباب لا يتقدمون في الذكر على الأقارب. ولذلك عدلت عن متابعة النسخة السلطانية والعثمانية وطبعة الأمير شكيب، فلم أعتمد لفظة أحباء بتشديد الباء بمعنى أحباب، خصوصًا وقد رأيت الشيخ الشنقيطي ضبط هذه الكلمة بالياء المثناة التحتية بعد وضع علامة السكون على الحاء. وردت هذه اللفظة بغير الميم في ش: وفي ع: أي الحجة. ولكن الرواية التي اعتمدناها عن النسخة السلطانية هي أفضل وأكثر دلالة على المقصود. والسياق يعينها. کرثه الغم يكرثه "بكسر الراء وبضمها" اشتد عليه كا كرثه. الظنه بالكسر وتشديد النون المفتوحة التهمة، والظنين المتهم. الإعتاب الرجوع عن الاساءة. أي المسارة بتشديد الراء وهي أن يكلم الرجل صاحبه في أذنه. الحسيفة العداوة. وفي ش: وع: "الحيكة" وفسرها الأمير شكيب بالحقد والعداوة وهي جيدة أيضًا. الوغر: الحقد والضغن والعداوة والضغن والعداوة والتوقد من الغيظ ومنه قولهم: وغر صدره وأوغر صدره. أي المرة الواحدة من قول الكذب. الابهة: العظمة. ومن معانيها ايضاً البهجة والكبر والنخوة. لم يرد لفظ "بل" في النسخة السلطانية. وهو وارد في ش: أي في حالة اعادة السائل بمسألته على المسؤول الاول، دون التفات إلى جوابك. الخصماء جمع خصيم. وفيه دليل على التشدد في الخصومة والمعارضة والمجادلة واللدد. الخصوم مفرده خصم بمعنى المحاجج والمجادل والمعارض. البدار المعاجلة والاستباق. أي عينك التى تنظر بها أي جوارحك من الأيدي والأرجل. أي محسن فاعل للجميل. الغناء بالفتح النفع. وردت هذه الكلمة في جميع النسخ هكذا "يستزله" بمعنى يطلب زلته وسقطه. فيكون المعنى انه لا بأس ولا غبار على الرجل اذا اقضى إليه صاحبه برأي وكان في ذلك الرأي سقطة وخطأ فاحش لارتفاع الكلفة بينهما. وفي ذلك مبالغة في الدلالة على الاختصاص والالتصاق اللذين يمتنع منهما خوف الملامة أو الانتقاد. وقد اشار العلامة المرحوم الشيخ ابراهيم اليازجي بتصحيحها هكذا. "يستنزله" ووافقه على ذلك الأمير شكيب. على أن التعبير "باستنزال الرأي" ليس من المألوف فضلًا عن كونه ليس من الأمور التى تدل على التبسط والتبذل وامتناع الكلفه وارتفاع المؤونة. وأما النسخ السلطانية فقد وردت فيها الرواية التي اعتمدناها في المتن "يستبين له" وبها يستقيم المعنى وينتظم السياق. الاستئناف والائتناف معناها الابتداء. ومن ذلك الروضة الأنف والكلأ الانف "يضم الألف والنون فيهما" بمعنى الذي لم يرعه أحد. ومن ذلك أيضًا كأس انف للتي لم يشرب بها قبل ذلك، كانه استؤنف شربها أي ابتدىء بشربها لأول مرة. وأما في عصرنا هذا فقد جرت لغة القضاء والمحاكم على أن الاستشاف يكون مراجعة الحكم مرة ثانية لنسخه أو تأييده. المناسمة مثل المناسمة بمعنى المساررة. راحة. فزع. التاط الشيء بقلبه إلتقاط التياطًا لصق به من فرط الحب. المؤونة على وزن مقولة من الاين وهو التعب والشدة والثقل على الإنسان: واللفظة مشتقة من الأون بمعنى الاعياء كالتعب. هذا واعلم أن الأين معناه التعب والاعياء أيضًا. أي فازجرها وامنعها. هي اللازمة، في اصطلاح العامة. أي يتعلق به غرامًا وولوعًا. يتكدر ويتنغص. أي مطالبته بالبخل. أي تريده على أن يكون بخيلًا. أي تمنع. الأنف والأنفة "يفتح الألف والنون فيهما": الاستنكاف. السلوة هنا بمعنى الملل والسآمة من الحديث. أي تضجرهم منك. ربما كان الأفضل وضع فاء الفصيحة على هذا الحرف. فيقال: فإن كنت حافظاً إلخ. ليكون ذلك بمثابة أفصاح عما اجمله المؤلف في الفقرات الثلاث المتقدمة التي يحذر فيها الناس من مضار صحبة السلطان. هذا وقد وردت تلك الفقرات في النسخة السلطانية كل واحدة في باب على حدته ومنفصلة عن الأخرى. وأما بقية النسخ فليس فيها تبويب على الاطلاق. اختبروا ما عندك. وفي ع:"ولوك" اي قلدوك الولاية. وفي ش: "جَلْدًا" بفتح الجيم وبسكون اللام أي صبورًا حمولًا. وهي رواية لا بأس بها. ولكننا نفضل الرواية التي اعتمدناها في المتن، عن النسخة السلطانية. لأن التقرب من الملوك يستلزم الحذر أكثر من التجلد. وفي ش: وع: "وظلموك". وهي روايه لا بأس بها. ​الأدب الكبير​ المؤلف ابن المقفع القسم الثاني بَابُ ابْذُلْ لصديقك دَمَك ومالَكَ، ولمعرفتك١ رِفْدك ومَحْضَرك، وللعامَّة بِشْرَك وتحنُّنَك، ولعدوِّك عَدْلك وإنصافك. واضْنِن على كل أحد بدِينك وعِرْضِك٢، إلا أَنْ تُضْطَرَّ إلى بذل العرض لوال أو والد . فأما للولد فمن سواه، فلا. بَابُ إنْ سمعت من صاحبك كلامًا أو رأيتَ منه رأيًا يعجبك، فلا تنتحِلْه تَزَيُّنًا به عند الناس. واكتفِ من التزيُّن بأن تجتني الصَّواب إذا سمعته، وتنسُبَه إلى صاحبه. واعلم أنَّ انتحالك ذلك مسخطةٌ لصاحبك، وأنَّ فيه مع ذلك عارًا وسُخْفًا. فإن بلغ بك ذلك أنْ تُشير برأي الرجل وتتكلمَ بكلامه، وهو يسمع، جَمَعْتَ مع الظلم قِلَّةَ الحياء. وهذا من سُوء الأدب الفاشي في الناس. ومن تمام حُسن الخُلُق والأدب في هذا الباب أنْ تَسْخُو نفسُك لأخيك بما انتحلَ من كلامك ورأيك، وتنسُبَ إليه رأيه وكلامه، وتُزيِّنَه مع ذلك ما استطعت. ولا يكوننَّ من خُلُقِك أنْ تبتدئ حديثًا ثم تقطعه وتقول: سوف، كأنك رَوَّأتَ٣ فيه بعد ابتدائك إياه، وليكن تروِّيك فيه قبل التفوُّه به. فإن احتجان٤ الحديث بعد افتتاحه سُخْف وغمٌّ. بَابُ اخزُنْ عقلك وكلامك، إلَّا عند إصابة الموضع. فإنه ليس في كلِّ حين يحسُنُ كلُّ صواب. وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة موضعه. فإن أخطأك ذلك، أدخلتَ المِحنة على عقلك وقولك، حتى تأتي به في موضعه. وإنْ أتيت به في غير موضعه، أتَيْتَ به وهو لا بَهاء ولا طُلاوة له. وليعرفِ العلماء حين تُجالسهم، أنَّك على أنْ تسمعَ أحرص منك على أنْ تقول. إن آثرتَ أنْ تُفاخر أحدًا ممن تستأنِس إليه في لَهْو الحديث، فاجعلْ غاية ذلك الجِدَّ، ولا تعتدْ أنْ تتكلم فيه بما كان هزلًا. فإذا بلغ الجِدَّ أو قارَبَهُ فدَعْهُ. ولا تخلطنَّ بالجدِّ هزلًا، ولا بالهزل جِدًّا. فإنك إنْ خلَطتَ بالجد هزلًا هجَّنته، وإنْ خلطت بالهزل جدًّا كدرته. غير أني قد علِمْتُ مَوْطنًا واحدًا إنْ قدرت أنْ تَستقبِلَ فيه الجِدَّ بالهزل، أصبتَ الرأي وظهرتَ على الأقران؛ وذلك أنْ يتورَّدَك متورِّدٌ بالسفه والغضب وسُوء اللفظ. فتجيبه إجابة الهازل المداعب، بُرحْبٍ من الذَّرْع وطلاقةٍ من الوجه وثباتٍ من المنطق. إنْ رأيت صاحبك مع عدوِّك، فلا يُغضبنَّك ذلك. فإنما هو أحد رجلين: إنْ كان رجلًا من إخوان الثقة، فأنفعُ مَواطِنه لك أقربُها من عدوِّك؛ لشَرٍّ يكفه عنك، أو لعورة يسترها منك، أو غائبة يطَّلع عليها لك. فأمَّا صديقك، فما أغناك أنْ يحضره ذو ثقتك. وإنْ كان رجلًا من غير خاصَّة إخوانك، فبأي حقٍّ تقطعه عن الناس وتُكَلِّفه أن لا يُصاحبَ ولا يُجالسَ إلَّا مَن تهوى؟ تحفَّظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطِبْ نفسًا عن كثير ممَّا يعرِض لك فيه صوابُ القول والرأي، مداراةً لأَنْ يظُنَّ أصحابك أنَّك إنما تُريد التطاول عليهم. بَابُ إذا أقبل إليك مُقبلٌ بِوُدِّهِ فَسَرَّك ألَّا يُدبر عنك، فلا تُنعِم الإقبال عليه والتفتُّح له. فإن الإنسان طُبع على ضرائب لُؤم: فمن شأنه أَنْ يَرحَلَ عمَّن لَصِق به. ويلصَقَ بمن رَحَل عنه، إلَّا من حفِظ بالأدب نفسَه وكابر طبعَه. فتحفظ من هذا فيك وفي غيرك! بَابُ لا تُكثِرنَّ ادِّعاء العلم في كل ما يعرِض بينك وبين أصحابك. فإنَّك من ذلك بين فضيحتَيْن: إمَّا أنْ ينازعوك فيما ادَّعيتَ، فيُهْجَم منك على الجهالة والسخف٥ والصَّلَف٦؛ وإمَّا أنْ لا ينازعوك ويُخَلُّوا٧ في يديْك ما ادَّعيتَ من الأمور، فينكشفَ منك التصنُّع والمَعْجَزَةُ. واستحِ الحياءَ كلَّه من أنْ تخبر صاحبك أنَّك عالم وأنه جاهل؛ مصرِّحًا أو مُعَرِّضًا. وإنْ استطلت على الأكْفَاء٨، فلا تثقنَّ منهم بالصفاء. بَابُ وإنْ آنَسْتَ من نفسك فضلًا، فتَطلعَ٩ منك على أنْ تذكره أو تُبْديه، فاعلمْ أنَّ ظهوره منك بذلك الوجه يقرِّر لك في قلوب الناس من العيبِ أكثرَ مما يقرِّر لك من الفضل. واعلمْ أنَّك إنْ صَبَرْتَ ولم تَعْجَلْ، ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند الناس. ولا يَخفَيَنَّ عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده وقِلَّةَ وقاره في ذلك بابٌ من أبواب البخل واللؤم. وأنَّ من خير الأعوان على ذلك السخاءَ والتكرُّمَ. بَابُ وإنْ أردت أنْ تَلبَسَ ثوب الوقار والجمال، وتتحلَّى بحلية المودَّة عند العامة، وتسلك الجَدَدَ١٠ الذي لا خَبار١٠ فيه ولا عثَار، فكن عالمًا كجاهل وناطقًا كعييٍّ. فأمَّا العلم فيزينك ويرشدك، وأمَّا قلة ادعائه فينفي عنك الحسدَ، وأمَّا المنطق (إذا احتجت إليه) فستبلغ منه حاجتك، وأمَّا الصمت فيُكْسبك المحبة والوقار. وإذا رأيت رجلًا يحدِّث حديثًا قد علمتَه أو يُخْبِر خبرًا قد سَمِعْتَه، فلا تشاركه فيه ولا تفتحْه١١ عليه، حِرصًا على أنْ يَعلم الناس أنك قد علمته. فإنَّ في ذلك، مع سوء الأدب، خفةً وسُخفًا وحسدًا وتضييعَ حزمٍ وعجبًا. بَابُ لْيعرفك إخوانُك — والعامة إنْ استطعت — أنك إلى أنْ تفعل ما لا تقول أقربُ منك إلى أنْ تقول ما لا تفعل. فإنَّ فضلَ القول على الفعل عارٌ وهُجنةٌ، وفضل الفعل على القول زينةٌ. وأنت حقيقٌ فيما وعدتَ من نفسك أو أخبرتَ به صاحبك من منزلة عندك أنْ تحتجن١٢ بعض ما في نفسك، إعدادًا لفضل الفعل على القول وتحرُّزًا بذلك عن تقصير فعل إن قصَّر. وقلَّما يكون إلَّا مقصِّرًا. بَابُ احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتُك فيما بينك وبين عدوِّك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضاء. وذلك أنَّ العدوَّ خَصْمٌ تَصْرَعُه بالحجَّة وتغلِبه بالحكّام، وأنَّ الصديق ليس بينك وبينه قاض، فإنَّما هو رضاه حَكَمُه١٣. بَابُ اجعل غاية تيّنك في مؤاخاة مَن تؤاخي ومواصلة من تواصل وطينَ نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك، وإنْ ظهر لك منه ما تكره. فإنه ليس كالمملوك تُعتِقه متى شئت، أو كالمرأة التي تُطِلّقها إذا شئْتَ، ولكنَّه عِرضُك ومروءتك. فإنَّما مُرُوّة الرجل إخوانه وأخدانه. فإِنْ عَثَرَ الناس على أَنك قطعتَ رجلًا من إخوانك — وإنْ كنت مُعذرًا١٤ — نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والمَلال فيه. وإنْ أنت مع ذلك تصَبَّرْتً على مقاربته١٥ على غير الرضَى، عاد ذلك إلى العيب والنقيصة١٦. فالاتيادَ١٧ الاتياد! والتثبُّتَ التثبُّت! بَابُ وإذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائك، فإنْ كان من إِخوان الدِين، فليكن فقيهًا غير مُراءٍ ولا حريصٍ؛ وإِنْ كان من إِخوان الدنيا، فليكن حرًّا ليس بجاهل ولا كذاب ولا شِرِّير ولا مشنوع١٨. فإِنَّ الجاهلَ أهلٌ أنْ يهرُبَ منه أبَوَاه؛ وإِنَّ الكذَّاب لا يكون أخًا صادقًا، لأن الكَذِب الذي يجري على لسانه إِنما هو من فضول كذِب قلبه (وإِنما سمي الصديق من الصدق، وقد يُتَّهم صِدق القلب وإِنْ صدق اللسان، فكيف إذا ظهر الكذب على اللسان؟)؛ وإن الشِرِّير يَكسِبُك الأعداء، ولا حاجة لك في صداقةٍ تجلب العداوة؛ وإنَّ المشنوع شانِعٌ صاحبَهُ. بَابُ تحرَّزْ من سُكْر السلطان١٩ وسُكْر المال وسُكْر العلم وسُكْر المنزلة وسُكْر الشباب. فانه ليس من هذا شيءٌ إلا هو ريح جِنَّة تَسْلِب العقل وتَذهَب بالوقار وتَصْرِف القلبَ والسمعَ والبصرَ واللسان إلى غير المنافع. بَابُ اعلم أنَّ انقباضك عن الناس يُكسِبُك العداوة، وأنَّ تقرُّبك٢٠ إليهم يكسبك صديق السوء. وسوءُ٢١ الأصدقاء أضرُّ من بُغْض الأعداء. فإنك إِنْ واصلتَ صديق السوء عْيَتْك جرائرُه، وإن قطعته شانَك٢٢ اسم القطيعة وألزمك ذلك من يرفع٢٣ عيبَك ولا ينشرُ عُذرَك. فإن المعايب تَنْمي والمعاذيرَ لا تنمي٢٤. بَابُ الْبَسْ للناس لباسين ليس للعاقل بُدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءة إلَّا بهما: لباسَ انقباض واحتجاز٢٥ من الناس، تلبسه للعامة فلا يلقَوْنَك٢٦ إلَّا متحفِّظًا متشددًا متحرِّزًا مستعدًّا؛ ولباسَ انبساط واستئناس، تلبَسُهُ للخاصّة الثقات من أصدقائك. فتلقاهم بذات٢٧ صدرك وتُفضي إليهم بمصون حديثك وتضع عنك مئونة الحَذَر والتحفُّظ فيما بينك وبينهم. وأهل هذه الطبقة — الذين هم أهلها — قليلٌ من قليل حقًّا. لأن ذا الرأي لا يُدخل أحدًا من نفسه هذا المَدْخَل إِلَّا بعد الاختبار والتكشُّف والثقة بصدق النصيحة ووفاء العهد٢٨. إِعلم أَنَّ لسانك أداةٌ مُصْلَتَةٌ٢٩، يتغالب عليه عقلك وغضبك وهواك وجهلك. فكلُّ غالب عليه مستمع به وصارفه في محبته. فإذا غلب عليه عقلك فهو لك، وإنْ غلب عليه شيءٌ من أشباه ما سمَّيْتُ لك فهو لعدوك. فإِنِ استطعتَ أنْ تحتفظ به وتصونه فلا يكون إلَّا لك، ولا يستولي عليه أو يشاركك فيه عدوُّك فافْعَلْ. إذا نابتْ أَخاك إِحدَى النوائب من زوال نعمة أو نزول بليَّة، فاعلم أَنك قد ابتُليت معه: إمَّا بالمؤاساة فتشاركه في البليَّة، وإمَّا بالخذلان فتحتمل العار٣٠. فالتمس المَخرج عند أشباه٣١ ذلك، وآثِر مُرُوءَتك على ما سواها. فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسُك مشاركة أخيك فيها فأجمل٣٢. فلعلَّ الإجمال يَسَعُك؛ لقلَّة الإِجمال في الناس. بَـابُ٣٣ إذا أصاب أخوك فضلَ منزلة أو سلطان فلا تُرِيَنَّه أنَّ سلطانه قد زادك له وُدًّا، ولا يعرِفَنَّ منك عليه بماضي إخائك تدلُّلًا. وأَرِهِ أنَّ سلطانه زادك له توقيرًا وإجلالًا من غير أنْ يقدِر أنْ يزيده وُدًّا ولا نُصحًا، وأنك ترى حقًّا للسلطان التوقيرَ والإجلال. فكُنْ في المداراة له والرفق به كالمؤتنف لما قبله! ولا تقدِّر الأمور فيما بينك وبينه على شيء مما كنت تعرِف من أخلاقه! فإنَّ الأخلاقَ مستحيلةٌ٣٤ مع السلطان. وربما رأينا الرجل المُدِلَّ على السلطان بقِدَمِه قد أضرَّ به قِدَمُه. بَابُ لا تعتذرنَّ إلَّا إلى مَن يُحِبُّ أنْ يجد لك عذرًا، ولا تستعينَّ إلَّا بمن يُحب أنْ يُظفِرَك بحاجتك. ولا تُحدِّثنَّ إلَّا من يرى حديثك مَغْنَمًا، ما لم يغلِبْك اضطرارٌ. بَابُ إذا غَرَسْتَ من المعروف غَرسًا وأنفقت عليه نفقةً فلا تَضِنَّنَّ في تربية ما غرست واستنمائه، فتذهب النفقة الأولى ضَياعًا٣٥. إذا أعتذر إليك معتذر، فتلفه بوجه مُشْرِقٍ وبشر ولسان طلقٍ٣٦ إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة. بَابُ اعلم أنَّ إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا. هم زينةٌ في الرخاء وعُدَّةٌ في الشدَّة ومعونةٌ على خير المعاش والمعاد. فلا تُفَرّطَنَّ في اكتسابهم وابتغاء الوُصُلات والأسباب إليهم. اعلم أنك واجدٌ رغبتك من الإخاء عند أقوام قد حالتْ بينك وبينهم بعض الأُبَّهة التي قد تعتري بعض أهل المروآت فتحجز عنهم كثيرًا ممن يرغب في أمثالهم. فإذا رأيت أحدًا من أولئك قد عَثَر به الدهر وعَرفتَ نفسك٣٧ أَنَّه ليس عليك في دُنوِّك منه وابتغائك مودَّته وتواضعك له مَذَلَّةٌ، فاغتنم ذلك منه واعمل فيه. إذا كانت لك عند أحد صنيعةٌ أو كان لك عليه طَوْلٌ فالتمس إِحياءَ ذلك بإِماتته وتعظيمه بالتصغير له. ولا تقتصرنَّ في قلة المنِّ به على أنْ تقول: «لا أذكُرُهُ ولا أصغي بسمعي إلى مَن يذكره». فإن هذا قد يستحي منه بعض من لا يوصف بعقل ولا كَرَم. ولكن احذَرْ أنْ يكونَ في مجالستك إيَّاه وما تُكلِّمُهُ به أو تستعينُهُ عليه أو تُجاريه فيه شيءٌ من الاستطالة. فإِنّ الاستطالةَ تهدِم الصنيعة وتُكدِّر المعروف. بَابُ احترس من سَوْرة٣٨ الغضب٣٩ وسَوْرة الحمية٤٠ وسَوْرة الحقد وسَوْرة الجهل٤١ وأعدِدْ لكلِّ شيء من ذلك عُدَّةً تجاهده بها من الحلم والتفكُّر والرويَّة، وذِكر العاقبة وطلب الفضيلة. واعلم أنَّك لا تُصيبُ الغَلَبة إلَّا بالاجتهاد والفضل، وأنَّ قِلَّة الإعداد لمدافعة الطبائع المتطلعة هو الاستسلام لها. فإنّه ليس أحَدٌ من الناس إلَّا وفيه من كل طبيعةٍ سوء غريزة. وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء. فأمَّا أنْ يَسْلمَ أحدٌ من أنْ تكون فيه تلك الغرائز شيءٌ، فليس في ذلك مطمعٌ. إلَّا أنَّ الرجل القويَّ، إذا يَرُدُّها بالقمع لها كلما تطلَّعتْ، لم يلبث أنْ يُميتها حتى كأنها ليست فيه. وهي في ذلك كامنة ككُمون النار في العُود والحجر. فإذا وَجَدت قادحًا من علة أو غفلةً، استورت٤٢ كما تستوري النار عند القدح في الحطب ثم لا يبدأ ضرُّها إلَّا بصاحبها، كما لا تبدأ النار إلَّا بعُودها الذي كانت فيه. بَابُ ذَلِّلْ نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء. فإن ذلك مما لا يكاد يُخْطِئُك. واعلم أنَّ الصبر صبران: صبرٌ المرء على ما يكرَهُ، وصبره عما يُحِبُّ. والصبر على المكروه أكبرهما٤٣، وأشبههما أنْ يكون صاحبه مُضطَرًّا. واعلم أنَّ اللئام أصبر أجسادًا، وأنَّ الكرام هم أصبر نفوسًا. وليس الصبر الممدوح بأنْ يكون جِلْدُ الرجل وَقَاحًا٤٤ على الضرب، أو رِجلُه قويَّة على المشي، أو يدُه قويةً على العمل. فإنما هذا من صفات الحَمير. ولكنَّ الصبر الممدوح أنْ يكون للنفس غَلُوبًا، وللأمور محتملًا، وفي الضَّرَّاء متجمَّلًا٤٥، ولنفسه عند الرأي والحِفَاظِ٤٦ مرتبطًا، وللحزم مُؤْثِرًا، وللهوَى تاركًا، وللمشقّة التي يرجو حسن عاقبتها مستخفًّا، ولنفسه على مجاهدة الأهواء والشهوات مُوَطِّنًا٤٧ ولبصيرته بعزمه مُنفِّذًا. حبِّبْ إلى نفسك العلْمَ حتى تلزمه وتألفه، ويكون هو لهْوَك ولذَّتك وسلوتك وتعلُّلَك٤٨ وشهْوَتك. واعلم أنَّ العلم علمان: علمٌ للمنافع، وعلمٌ لتذكية العقول. وأفشى العِلْمين وأحراهما٤٩ أنْ يَنْشطَ له صاحبُه من غير أنْ يُحَضَّ عليه علمُ المنافع. والعلْمُ الذي هو ذكاء العقول وصِقالها وجلاؤُها له فضيلة منزلةٍ عند أهل الفضيلة والألباب. بَابُ عوِّدْ نفسك السخاء. واعلم أنه سخاآن: سَخاوةُ نفْس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيْدي الناس. وسَخاوة نفْس الرجل بما في يديه أكثرهما وأقربهما من أنْ تدخل فيه المفاخرة. وتركه ما في أيدي الناس أمحضُ في التكرُّم وأبرأُ من الدَّنَس وأنزه. فإن هو جمعهما فَبَذَلَ وعفَّ، فقد استكمل الجود والكرم. بَابُ ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك أن لا تكون حسودًا. واعلم أنّ الحسد خُلُقٌ لئيمٌ. ومن لؤمه أنه موكَّل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكْفاء والمعارف والخُلَطاء والإخوان. فليكن ما تعامل٥٠ به الحسدَ أنْ تعلَمَ أنَّ خير ما تكونُ حين تكون مع من هو خير منك، وأنَّ غُنْمًا حسنًا لك أنْ يكون عشيرك وخليطك أفضلَ منك في العلم فتقتبسَ من علمه، وأفضلَ منك في القوَّة فيدفع عنك بقوّته، وأفضلَ منك في المال فتُفيدَ٥١ من ماله، وأفضلَ منك في الجاه فتُصيبَ حاجتك بجاهه، وأفضلَ منك في الدِّين فتزدادَ صلاحًا بصلاحه. بَابُ ليكنْ مما تنظر فيه من أمر عدوِّك وحاسدك أن تعلم أنه لا ينفعُك أنْ تخبِر عدوَّك وحاسدَك أنَّك له عدوٌّ، فتُنْذِرُهُ بنفسك وتُؤذِنه بحربك قبل الإعداد والفرصة. فتحملُه على التسلُّح لك وتُوقِدُ ناره عليك. واعلمْ أنَّه أعظمُ لَخطرِك أنْ يرى عدوُّك أنّك لا تتخذه عدوًّا. فإِنّ ذلك غِرَّةٌ له وسبيلٌ لك إلى القدرة عليه. فإنْ أنت قدرت واستطعت اغتفارَ العداوة عن أن تكافئ بها، فهنالك استكملت عظيمَ الخَطَر. إنْ كنتَ مُكافئًا بالعداوة والضرر، فإيَّاك أنْ تكافئ عداوة السرِّ بعداوة العلانَية، وعداوةً الخاصَّة بعداوة العامّة. فإنَّ ذلك هو الظلم والاعتداء. واعلم مع ذلك أنَّه ليس كل العداوة والضرر يُكافأ بمثله. كالخيانة لا تُكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة. ومن الحيلة في أمرك مع عدوِّك أنْ تصادق أصدقاءه وتؤاخي إخوانه، فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتلاحي والتجافي حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعة والعداوة له. فإنَّه ليس رجلٌ ذو طَرْف يمتنع من مؤَاخاتك إذا التمست ذلك منه. وإِنْ كان إِخوان عدوِّك غير ذوي طَرْف٥٢، فلا عدوَّ لك. بَابُ لا تَدَعْ — مع السكوت عن شَتْمِ عدوّك — إحصاء مثالبه ومعايبه ومعايره واتِّباعَ عوراتِه، حتى لا يشذُّ عنك من ذلك صغير ولا كبير، من غير أنْ تشيع ذلك عليه، فيتسلَّحَ له، ويستعدَّ له. ولا تذكره في غير موضعه، فتكون كمستعرض الهواءَ بنَبْلِه٥٣ قبل إِمكان الرمي. ولا تتخذنَّ اللعن والشتم على عدوِّك سلاحًا، فإنه لا يجرح في نفْسٍ ولا منزلةٍ ولا مال ولا دِينٍ. بَابُ إِنْ أردت أنْ تكون داهيًا، فلا تُحبَّنَّ أنْ تسمَّى داهيًا. فإِنّه مَن عُرِفَ بالدهاء، صار مخاتلا علانيةً، وحذِرَهُ الناس٥٤ حتى يمتنع منه الضعيف ويتعرَّض له القويُّ. فإنَّ من إرْب٥٥ الأريب دفنُ٥٦ إرْبه ما استطاع حتَّى يُعْرف بالمسامحة في الخليقة والاستقامة في الطريقة. ومن إرْبه ألَّا يوارب العاقل المستقيم الطريقة والذي يطلع على غامض إرَبه ويوقفه عليه، فيَمْقُته لذلك. وإنْ أَردتَ السلامة فأَشْعِر قلبك الهيبة٥٧ للأمور، من غير أنْ تَظهرَ منك الهيْبةُ، فتُفطنهم بنفسك وتجرِّئَهم عليك وتدعو إليك منهم كلَّ الذي تهاب. فاشْعَبْ٥٨ لمداراة ذلك من كتمان الهيبة وإظهار الجُرأة٥٩ والتهاون٦٠ طائفة من رأيك. وإنْ ابْتُليتَ بمحاربة عدوك فحالفْ٦١ هذه الطريقة التي وصفتُ لك من إِستشعار الهيبة وإِظهار الجُرْأة والتهاون. وعليك بالحذر والجِدِّ في أمرك والجُرأة في قلبك، حتى تملأ قلبَك جَرأةُ ويستفرِغَ عملك الحِذْرَ. بَابُ اعلمْ أنَّ من عدوِّك من يعمل في هلاكك، ومنهم من يعمل في مُصالحتك، ومنهم من يعمل في البعد منك. فاعرفهم على منازلهم. ومن أَقوى القوَّة لك على عدوِّك، وأعزِّ أنصارك في الغَلَبَة له أنْ تُحصيَ على نفسكَ العيوبَ والعوراتِ كما٦٢ تحصيها على عدوك، وتنظُرَ عند كل عيب تراه أو تسمعه لأحدٍ من الناس هل قارفتَ٦٣ ذلك العيبَ أَو ما شاكله، أو سلِمْتَ منه. فإنْ كنت قارفتَ شيئًا منه، جعلته مما تخصى على نفسك. حتى إذا أحصيت ذلك كله ، فكاثر٦٤ عدوك بإصلاح نفسك وعثراتك، وتحصين عوراتك وإحراز مقاتلك. وخذ نفسك بذلك مسيًا ومصبحًا. فإذا آنسْتَ منها٦٥ دفعًا له وتهاونًا به٦٦، فأعدد نفسك عاجزًا ، ضائعًا ، خائبًا٦٧ ، مُعْوِرًا٦٨ لعدوّك، مُمْكِنًا له من رمْيك. وإنْ حصل من عيوبك وعوراتك ما لا تقدِر على إِصلاحه من ذنبٍ مضى لك أو أمرٍ يعيبُك عند الناس ولا تراه أَنت عيبًا، فاحفظ ذلك واجعله نُصْبَ عينيك٦٩ ولا تقل: وما عسى يقول فيَّ القائل؟ فاعلم أنَّ عدوَّك مُريدُك بذلك. فلا تغفل عن التَّهيُّوءِ له بحيلتك فيه سرًّا وعلانيةً، وعن الإعداد لقوَّتك وحُجتك من نسبك ومثالب آبائك أو عيب إخوانك وأخدانك. فأمَّا الباطل فلا تَرُوعَنَّ به قلبَك ولا تستَعِدَّنَّ له ولا تشتغلنَّ بشيءٍ من أمره. فإنّه لا يَهُولك ما لم يقع، وما إنْ وقع اضمحل. واعلم أنه قلَّما بُدِهَ٧٠ أحد بشيء يعرفه من نفسه — وقد كان يطمع في إِخفائه عن الناس — فيُعَيِّرُه به مُعَيِّرٌ عند السلطان أو غيره، إِلا كاد يشهَد به عليه وجهُهُ وعينُهُ ولسانُهُ للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتُوره عند تلك البديهة. فاحذرْ هذه وتصنَّع لها، وخُذْ أُهبتك لبغَتَاتها٧١، وتقدَّم في أخذ العتاد لنفيها. بَابُ اعلمْ أنَّ مِن أوقع٧٢ الأمور في الدِّين وأنهكها للجسد وأتلفها للمال وأقتلها للعقل وأزراها للمُرُوءة وأسرعها في ذهاب الجلالةِ والوقارِ: الغرامُ بالنساء. ومن البلاء على المُغْرَم بهنَّ أنَّه لا ينفك يأجَمُ٧٣ ما عنده وتطمحُ عيناه إلى ما ليس عنده منهنَّ. وإنما النساء أشباهٌ. وما يَتَزَيَّنُ في العيون والقلوب من فضْل مجهولاتهنَّ على معروفاتهنَّ باطلٌ وخُدْعةٌ، بل كثير مما يَرْغَبُ عنه الراغب مما عنده أفضلُ مما تتوق إِليه نفسه منهنَّ. وإنما المرتغِبُ عمّا في رَحلْه٧٤ منهنَّ إِلى ما في رِحَال الناس كالمرتغِبِ عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس: بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام؛ وما في رحال الناس من الأطعمة أشدُّ تفاضلًا وتفاوتًا مما في رحالهم من النساء٧٥. ومن العَجَب أنَّ الرجل الذي لا بأْسَ بلُبِّهِ ورأْيه يرى المرأة من بعيد متلفِّفَةً في ثيابها، فيصوِّرُ لها في قلبه الحسنَ والجمالَ حتى تَعْلَقَ بها نفسُه من غير رُؤْية ولا خَبَرِ مُخبِرٍ. ثُمَّ لَعَلَّه يهجِم منها على أقبح القُبْح وأذَمِّ الدَّمامة٧٦، فلا يعظه ذلك ولا يقطعه عن أمثالها. ولا يزال مشعوفًا بما لم يذُقْ، حتى لو لم يبقَ في الأرض غيرُ امرأةٍ واحدةٍ، لظنَّ أنَّ لها شأنًا غيرَ شأن ما ذاق. وهذا هو الحُمقُ والشقاءُ والسفهُ. ومن لم يَحْمِ نفسه ويُطَلِّقها ويُحَلِّئها٧٧ عن الطعام والشراب والنساء في بعضِ ساعاتِ شهوته وقُدْرته، كان أيسرَ ما يصيبه من وبالِ ذلك انقطاعُ تلك اللذَّات عنه بخمود نار شهوته وضُعْف حوامل جسده. وقلَّ من تجدُه إلا مخادِعًا لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحِمْية والدواء، وفي أمر مُرُوءته عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دِينه عند الرِّيبة والشُّبْهة والطمع. بَابُ إنِ استطعتَ أن تضع نفسك دون غايتك في كلِّ مجلسٍ ومقامٍ ومقالٍ ورأيٍ وفعلٍ، فافعلْ. فإِنَّ رفعَ الناس إيَّاك فوق المنزلة التي تحُطُّ إِليها نفسَك وتقريبَهم إيَّاك إِلى المجلس الذي تباعدْتَ منه وتعظيمَهم من أمرك ما لم تعظِّم وتزيينَهم من كلامك ورأيك وفعلك ما لم تُزيِّنْ هو الجَمالُ٧٨. بَابُ لا يُعْجِبَنَّك العالِمُ ما لم يكن عالمًا بمواضع ما يَعلَم٧٩، ولا العاملُ إذا جَهِل موضع ما يعمَلُ. بَابُ وإنْ غُلبْتَ على الكلام وقتًا، فلا تُغلَبَنَّ على السكوت! فإنَّه لعله يكون أشدَّهما لك زينةً وأجلبهما إليك للمودة وأبقاهما للمهابة وأنفاهما للحَسَد. بَابُ احذر المِرَاء وأغْرِبْهُ٨٠. ولا يمنعنَّك حَذَر المِرَاء من حُسْنِ المناظرة والمجادلة. واعلمْ أنَّ المماري هو الذي يريد أن يتعلَّم من صاحبه، ولا يرجو أن يتعلم منه صاحبه. فإنْ زعم زاعمٌ أنَّه مُجادلٌ في الباطل عن الحقِّ، فإِنّ المُجَادِلَ وإنْ كان ثابت الحُجَّة حاضرَ البيِّنة حاضر الذهن فإنَّه يخاصم إلى غير قاضٍ، وإنَّما قاضيه الذي لا يعدِلُ بالخُصومة إليه عدلُ صاحبه وعقلُه. فإِنْ آنَسَ أو رجا عند صاحبه عَدْلًا يقضي به على نفسه، فقد أصاب وجه أمره. وإذا تكلم على غير ذلك كان مماريًا. وإنِ استطعت أن لا تُخْبِرَ أخاك عن ذات نفسك بشيء إلا وأنت محتجنٌ٨١ عنهَ بعض ذلك التماسًا لفضل الفعل على القول واستعدادًا لتقصير فعل إن قصَّر، فافعل. واعلم أنَّ فضل الفعل على القول زِينةً، وفضلَ القول على الفعل هُجْنَةٌ٨٢ وأن إحكام هذه الخَلَّة٨٣ من غرائب الخلال. إذا تراكمت عليك الأعمال، فلا تلتمِسِ الرَّوْح٨٤ في مدافعتها يومًا بيومٍ بالرَّوغان منها. فإنه لا راحةَ لك إلَّا في إصدارها. وإنَّ الصبر عليها هو الذي يخفِّفها عنك، والضَّجَرَ هو الذي يراكمها عليك. فتعهَّدْ من ذلك في نفسك خَصلة قد رأيتُها تعتري بعض أصحاب الأعمال. وذلك أنَّ الرجل يكون في أمرٍ من أمره فَيرِدُ عليه شغلٌ آخرُ أو يأتيه شاغلٌ من الناس يكره إتيانه٨٥، فيكدِّرُ ذلك بنفسه تكديرًا يُفسدُ ما كان فيه وما ورد عليه، حتى لا يُحْكِمَ واحدًا منهما. فإذا ورد عليك مِثْلُ ذلك، فليكن معك رأيك وعقلك اللذان بهما تختار الأمور، ثُمَّ اخترْ أَوْلَى الأمريْن بشغلك فاشتغل به حتى تفرُغ منه. ولا يعظُمَنَّ عليك فَوْتُ ما فات وتأخيرُ ما تأخَّرَ. بَابُ إذا أعملتَ الرأي مُعْمَلَهُ وجعلتَ شغلك في حقّه، واجْعَلْ لنفسك في كلّ شغلٍ غايةً ترجو القوة والتمام عليها. بَابُ اعلمْ أنك إنْ جاوزتَ الغاية في العبادة، صِرْتَ إلى التقصير؛ وإنْ جاوزتَها في حَمْل العلم، لحقت بالجهَّال؛ وإن جاوزتَها في تكلُّف رضَى الناس والخفَّة معهم في حاجاتهم، كنت المُحسَّر المُضيَّع٨٦. بَابُ واعلم أنَّ بعض العطيَّة لُؤْمٌ٨٧، وبعض السلاطة غمٌّ، وبعض البيان عِيٌّ، وبعض العلم جهلٌ. فإنِ استطعتَ أن لا يكون عطاؤك جورًا ولا بيانك هَذَرًا٨٨ ولا علمك وبالًا، فافعل. بَابُ اعلم أَنَّه ستمُرُّ عليك أحاديث تُعجِبك: إِمَّا مليحةٌ وإمَّا رائعة. فإذا أعجَبتْك، كنتَ خليقًا أنْ تحفظها. فإِنَّ الحفظ موكَّلٌ بما مَلُحَ ورَاعَ. وستحرِصُ على أنْ تُعْجَبَ منها الأقوامُ. فإِن الحِرْص على التعجُّب من شأن الناس. وليس كل مُعْجِب لك مُعجِبًا لغيرك. فإذا نَشَرْتَ ذلك المرَّة والمرَّتين، فلم تَرَهُ وَقَعَ من السامعين موقعَه منك، فانزجرْ عن العودة. فإنَّ العَجُّبَ من غيْر عَجَبٍ سُخْفٌ شديدٌ. وقد رأيْنا من الناس مَن تعلَّق بالشيء ولا يُقْلعُ عنه وعن الحديث به، ولا يمنعه قِلَّة قبول أصحابه له من أنْ يعود إليه ثم يعود. ثمَّ انظُرِ الأخبار الرَّائعة٨٩ فتحفَّظ منها. فإنّ الإنسان من شأْنه الحِرصُ على الإخبار، ولا سيّما ما يَرتاع الناس له. فأكْثَرُ الناسِ مَن يُحدِّث بما سمع، ولا يبالي ممن سمِعَ. وذلك مَفْسَدة للصدق ومَزْرَأَة بالمُرُوءة. فإن استطعتَ أنْ لا تُخبِرَ بشيءٍ إلَّا وأنت به مصدِّقٌ (لا يكون تصديقك إلَّا ببرهانٍ)، فافعل. ولا تقل كما يقول السفهاء: «أُخْبِرُ بما سمِعْتُفإن الكَذِبَ أكثرُ ما أنت سامِعٌ، وإنَّ السُّفَهاء أكثرُ مَن هو قائلٌ. وإنَّك إنْ صِرتَ للأحاديث٩٠ واعيًا وحاملًا، كان ما تَعِي وتحملُ عن العامَّة أكثرَ مما يَخترعُ المخترعُ بأضعافٍ. انظر مَن صاحبْتَ من الناس، من ذي فضْلٍ عليك بسلطانٍ أو منزلةٍ، أو مَن دُون ذلك من الأَكْفاءِ والخُلَطاءِ والإخوان، فوَطِّنْ نَفْسَك في صُحبته على أنْ تقبَلَ منه العفوَ وتسخُو٩١ نفسُك عما اعتاصَ٩٢ عليك ممَّا قِبَلَه، غيْرَ معاتبٍ ولا مُستبطئٍ ولا مُستزيدٍ. فإنَّ المعاتبة مَقطَعةٌ للوُدِّ، وإنَّ الاستزادة من الجشع، وإنَّ الرضا بالعفو والمسامحة في الخُلُق مُقَرِّبٌ لك كلَّ ما تَتُوق إليه نفسُك، مع بقاء العِرض والمودَّة والمُرُوءة٩٣ واعلَمْ أنَّك ستُبْلَى من أقوامٍ بسَفَهٍ، وأنَّ سَفهَ السفيه سَيُطْلِعُ له منك حقدًا. فإن عارضته أو كافأْتَه بالسَّفَه فكأنَّك قد رَضِيتَ ما أتى به، فأحببتَ أنْ تحتذيَ على مثاله. فإنْ كان ذلك عندك مذمومًا، فحقِق ذمَّك إيَّاه بترك معارضته. فأمَّا أنْ تذمَّه وتمتثلَه، فليس ذلك لك سَدادٌ. لا تصاحبنَّ أحدًا (وإنْ استأنستَ به أخًا ذا قرابة أو أخًا ذا مودَّة) ولا والدًا ولا ولدًا إلَّا بمروءة. فإن كثيرًا من أهل المُرُوءة قد تحملهم الاسترسال والبذُّل على أنْ يصحبوا كثيرًا من الخُلَطاء بالإدلال والتهاون والتبذُّل. ومن فَقَدَ من صاحبه صُحبة المروءة ووقارَها وجلالَها، أحدثَ ذلك له في قلبه رِقَّة شأن وسُخف منزلة. بَابُ ولا تلتمس غَلَبَةَ صاحبك والظَّفَرَ عليه عند كلِّ كلمةٍ ورأيٍ، ولا تجترئَنَّ على تقريعه بظَفَرك إذا استبان، وحُجَّتك عليه إذا وَضَحَت. فإنّ أقوامًا قد يحملهم حُبُّ الغَلَبَة وسَفَهُ الرأْي في ذلك على أنْ يتعقَّبوا الكلمة بعد ما تُنْسى فيلتمسوا فيها الحُجَّة، ثم يستطيلون بها على الأصحاب. وذلك ضَعْفٌ في العقل ولُؤْمٌ في الأخلاق. بَابُ لا يُعجبنَّك إكرام مَن يكرمك لمنزلةٍ أو لسلطانٍ فإِنَّ السلطان أوشكُ أمور الدنيا زوالًا. ولا يُعجبنَّك إكرامُ مَن يكرمك للمال، فإنّه هو الذي يتلو السلطان في سرعة الزوال. ولا يُعجبنَّك إكرامهم إيَّاك للنسب، فإن الأنساب أقلُّ مناقب الخير غَناءً عن أهلها في الدِّين والدنيا٩٤. ولكنْ إذا أُكْرِمْتَ على دِينٍ أو مُرُوءَةٍ فذلك فليعجبك! فإنَّ المُرُوءة لا تزايلك في الدنيا، وإنَّ الدين لا يزايلك في الآخرة. بَابُ اعلم أنَّ الجبنَ مقتلةٌ وأنَّ الحرص مَحْرَمَةٌ٩٥. فانظر فيما رأيتَ أو سمعت: أمَنْ قُتِل في القتال مُقبِلًا أكثرُ، أم من قُتِل مُدبِرًا؛ وانظر أمَنْ يطلب إليك بالإجمال والتكرُّم أحقُّ أنْ تسخُوَ نفسك له بطَلبته أمَّن يطلب إليك بالشَّرَة٩٦ والزيغ٩٧؟ بَابُ واعلم أنَّه ليس كلُّ مَن كان لك فيه هوًى، فذَكرَهُ ذاكرٌ بسوءٍ وذكرتَه أنت بخير ينفعه ذلك، بل عسى أنْ يضرَّه. فلا يستخفنَّك ذِكرُ أحدٍ من صديقك أو عدوك، إلَّا في مواطن دفعٍ أو محاماة. فإنَّ صديقك — إذا وثق بك في مواطن المحاماة — لم يحفِل بما تركتَ مما سوى ذلك، ولم يكن له عليك سبيلُ لائمةٍ. وإنَّ من أحزم الرأي لك في أمر عدوِّك أنْ لا تذكره إلَّا حيث تضرُّه، وأن لَّا تَعدَّ يسيرَ الضرر له ضررًا. بَابُ اعلم أنَّ الرجل قد يكون حليمًا، فيحمله الحِرصُ على أنْ يقول الناس جليدٌ، والمخافةُ أنْ يقال مَهينٌ على أنْ يتكلَّف الجهل. وقد يكون الرجل زميتًا٩٨ فيحمله الحرص على أنْ يقال لَسِنٌ٩٩، والمخافةُ من أنْ يقال عَيِيٌّ على أنْ يقول في غير موضعه فيكون هَذِرًا١٠٠. فاعرف هذا وأشباهَه، واحترسْ منه كلَّه. بَابُ إذا عَرَض لك وبَدَهَك أمران لا تدري أيُّهما أصوبَ، فانظُرْ أيَّهما أقربُ إلى هواك، فخالِفْهُ. فإنَّ أكثرَ الصواب في خلاف الهوى. وليجتمعْ في قلبك الافتقارُ إلى الناس والاستغناءُ عنهم! ولْيكنِ افتقارُك إليهم في لِينِ كلمتك لهم وحُسْنِ بِشرِك بهم! ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عِرْضِك وبقاء عِزِّك. بَابُ لا تُجالسنَّ امرءًا بغير طريقته! فإنَّك إنْ أردتَ لِقاءَ الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعييِّ بالبيان، لم تَزِدْ على أنْ تُضيِّعَ عِلمك وتُؤْذي جليسك، بحَمْلك عليه ثِقْلَ ما لا يَعْرِفُ وغمِّك إِياه بمثل ما يغتمُّ به الرجُل الفصيحُ من مخاطبة١٠١ الأعجم١٠٢ الذي لا يفقه عنه. واعلمْ أنَّه ليس من عِلمٍ تذكرُهُ عند غير أهله إِلَّا عابوه١٠٣ ونصبوا له ونقضوه عليك وأبغضوك عليه، وحَرَصوا على أنْ يجعلوه جهلًا، حتى إنَّ كثيرًا من اللهو واللّعِبِ الذي هو أخَفُّ الأشياء على الناس لَيَحْضُره من لا يعرفُهُ، فيثْقُلُ عليه ويغتَمُّ به. بَابُ ليعْلمْ صاحبُك أَنك تُشْفِق عليه وعلى أصحابه١٠٤! وإيَّاك إِنْ عاشرك امروءٌ أو رافقك، أنْ يَرَى منك الوُلوعَ بأحَدٍ من أصحابه وإخوانه وأخدانه. فإنَّ ذلك يأخُذُ من أعِنَّة القلوب مأخذًا. وإنَّ لُطْفَك بصاحبِ صاحبِك أحْسَنُ عنده موقِعًا من لطْفكَ به في نفسه. بَابُ واتَّقِ الفَرَحَ عند المحزون، واعْلَمْ أَنه يَحْقِدُ على المُنطلِق ويشكر للمُكتئِب. اعلم أنَّك ستسمع من جُلسائك الرأيَ، والحديثَ تُنكرُهُ وتستخفيه١٠٥ وتستشنعه من المتحدِّث به عن نفسه أو غيره، فلا يكوننَّ منك التكذيب ولا التسخيف لشيءٍ مما يأْتي به جليسك. ولا يُجرِّئنَّك على ذلك أنْ تقول: إنما حدثَ عن غيره. فإنَّ كلَّ مردودٍ عليه سيمتعِضُ من الردِّ. وإنْ كان في القوم من تكرَهُ أنْ يستقرَّ في قلبه ذلك القول، لخطأٍ تخاف أنْ يعقد عليه أو مضرَّة تخشاها على أحدٍ، فإنَّك قادرٌ على أنْ تنقُضَ، ذلك في سَتر، فيكون ذلك أيْسرُ للنقض وأبعد للبِعضة. بَابُ اعْلَمْ أنَّ البِغْضَةَ خَوْفٌ، والمَوَدَّةَ أمْنٌ، فاستكثر من المَوَدَّة صامتًا. فإنَّ الصمت سيدعوها إليك. وإذا ناطقتَ، فناطِقْ بالحُسنى. فإنَّ المنطِقَ الحَسَنَ يَزيدُ في وُدِّ الصديق ويَسْتَلُّ١٠٦ سخيمة الوَغْر١٠٧. بَابُ اعْلَمْ أنَّ خَفْضَ الصوت وسكونَ الريح ومشيَ القَصْد من دواعي المودَّة، إذا لم يخالط ذلك بأْوٌ١٠٨ ولا عُجْبٌ. العُجْب من دواعي المقْتِ والشَّنَآن١٠٩. بَابُ تعلم حُسْنَ الاستماع كما تتعلَّمُ حسن الكلام. ومن حسن الاستماع إمهالُ المتكلمِ حتى ينقضِي حديثُه، وقلَّةُ التلفتِ إلى الجواب، والإقبالُ بالوجهِ والنظرِ إلى المتكلمِ، والوعْىُ لما يقول. اعلم أنَّ المستشار ليس بكفيل، وأنَّ الرأي ليس بمضمونٍ. بل الرأيُ كلُّه غَرَرٌ١١٠. لأن أمور الدنيا ليس شيءٌ منها بثقةٍ، ولأنه ليس من أمرها شيءٌ يدركه الحازم إلَّا وقد يُدركه العاجز. بل ربما أعيى الحَزَمَةَ ما أمكَنَ العَجَزَةَ. فإذا أشار عليك صاحبُك برأيٍ، ثم لم تجد عاقبتَه على ما كنتَ تأمُلُ، فلا تجعلْ ذلك عليه دَيْنًا ولا تُلزِمْهُ لَوْمًا وعَذْلًا، بأنْ تقول: أنْتَ فَعلتَ هذا بي، وأنْتَ أمرتني، ولولا أنت لم أفعَلْ، ولا جَرَمَ لا أطيعُك في شيءٍ بعدها. فإن هذا كله ضَجَرٌ ولؤمٌ وخِفَّةٌ. فإن كنتَ أنت المشيرُ، فعَمَل برأْيِك أو تركه، فبدا صوابُك فلا تَمْنُنْ١١١ به ولا تُكْثِرَنَّ ذِكْرَهُ إنْ كان فيه نجاح، ولا تَلُمْهُ عليه إنْ كان قد استبان في تركه ضرر، بأن تقول: أَلَمْ أقُل لك: افعل هذا. فإنَّ هذا مُجانبٌ لأدب الحكماء. بَابُ اعلم — فيما تُكلِّمُ به صاحبَك — أنَّ مما يُهجِّنُ صواب ما يأتي به، ويَذْهبُ بطعمه وبهجته، ويُزْرِي١١٢ به في قبوله، عَجَلَتُك بذلك وقطْعُك حديثَ الرجُل قبل أنْ يُفْضِي إليك بذات نفسهِ. بَابُ ومن الأخلاق السيِّئة على كل حال مُغَالبةُ الرجل على كلامه والاعتراضُ فيه، والقطعُ للحديث. بَابُ ومن الأخلاق التي أنت جديرٌ بتركها — إذا حدَّث الرجلُ حديثًا تعرِفُهُأنْ لا تسابقَه إليه وتفتحه عليه وتشاركه فيه، حتى كأنَّك تُظهر للناس أنك تُريد أنْ يعلموا أنَّك تعلمُ مِثْلَ الذي يعلمُ. وما عليك أنْ تُهْنئه بذلك وتفْرِدَهُ به. وهذا الباب من أبواب البخل. وأبوابُهُ الغامضة كثيرةٌ. بَابُ إذا كنتَ في قوم ليسوا بُلَغاء ولا فُصحاءَ، فَدَعِ التطاوُل عليهم بالبلاغة والفصاحة. بَابُ واعلمْ أنَّ بعضَ شدَّةِ الحَذَرِ عَوْنُ عليك لِمَا تَحْذَرُ، وأَنَّ بعضَ شدَّة الاتِّقاء مِمَّا يدعو إليك ما تَتقي. بَابُ إن رأيتَ نفسك تصاغَرَت إليها الدنيا، أو دعتْكَ إلى الزهادة فيها على حال تعذُّر من الدنيا عليك، فلا يغرَّنَّكَ ذلك من نفسك على تلك الحال. فإنها ليست بزهادة ولكنَّها ضجرٌ واستخذاء١١٣ وتعيير نفس١١٤ عليك عند ما أعجزك من الدنيا وغضبٌ منك عليها لِمَا الْتَوى عليك منها. ولو تَمَّمْتَ على رفضها وأمْسكتَ عن طلبها، أوْشَكْتَ أنْ تَرى من نفسك من الضَّجَر والجزَعِ أشَدَّ من ضَجَرِك الأوَّل بأضعافٍ. ولكنْ إذا دَعَنْك نفسُك إلى رفض الدنيا وهي مقبلة عليك، فأسْرِعْ إجابتها. بَابُ اعرف عوراتك. إيَّاك أن تُعَرِّض بأحدٍ فيما ضارعها١١٥! وإذا ذُكِرَتْ من أحدٍ خليقةٌ فلا تُناضل عنه مُناضلَةَ المُدافع عن نفسه، المُصغِّرِ لِمَا يعيبُ الناسُ منه، فَتُتَّهَمَ بمثلها؛ ولا تُلحَّ كُلَّ الإلحاح. وليكُنْ ما كان منك في غير احتلاط١١٦، فإنَّ الاحتلاط من محقِّقَات الرِّيَبِ. بَابُ إذا كنتَ في جماعةِ قومٍ أبدًا، فلا تَعُمَّنَّ جيلًا من الناس أو أمَّة من الأمم بشَتْم ولا ذَمٍّ. فإنَّك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جُلسائك مُخطِئًا١١٧، فلا تأمَن مُكافأتَهُمerrata 1؛ أو مُتعمِّدًا، فتُنْسَبُ إلى السَّفَهِ. ولا تَذُمَّنَّ مع ذلك اسمًا من أسماء الرجال أو النساء بأنْ تقول: إنَّ هذا لقبيحٌ من الأسماء! فإنَّك لا تدري لعلَّ ذلك غير موافق لبعض جُلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأهلين الحُرُم١١٨. ولا تستصغرنَّ من هذا شيئًا. فكلُّ ذلك يجرَحُ في القلب. وجُرْحُ اللّسان أشَدُّ من جرح اليدِ. واعلم أنَّ الناس يَخْدعون أنفُسَهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثَالبهم ومَساويهم، وتنقصهم١١٩. وكلُّ ذلك أبْيَنُ عند سامعيه من وَضَحَ الصُّبْحِ. فلا تكونَنَّ من ذلك في غرور، ولا تجعلنَّ نفسك من أهله. بَابُ اعلم أنَّ مِن تنكُّب الأمور ما يُسمَّى حَذَرًا، ومنه ما يُسمَّى خَوَرًا. فإن استطعت أنْ يكون لحينِك من الأمر قبل مواقعتك إياه، فافعلْ. فإنّ هذا الحَذَرُ. ولا تنغَمِس فيه ثم تتهَيَّبُهُ، فإنّ هذا هو الخَوَرُ. فإنَّ الحكيم لا يخوض نهرًا حتى يعلم مقدار قَغْرِه. بَابُ قد رأينا من سُوء المجالسة أنَّ الرجل تثقُلُ عليه النعمة يراها بصاحبه. فيكون ما يشتفي بصاحبه — في تصغير أمره وتكدير النعمة عليه — أنْ يذكر الزوال والفناء والدوَل، كأنَّهُ واعظٌ وقاصٌّ. فلا يخفى ذلك على من يُعنَى به، ولا غيره. ولا يُنَزَّل قولُهُ بمنزلة الموعظة والإبلاغ، ولكن بمنزلة الضَّجَر من النعمة — إذا رآها لغيره — والاغتمامِ بها والاستراحةِ إلى غير رَوْحٍ. وإني مخْبرك عن صاحبٍ لي، كان من أعظم الناس في عيني. وكان رأسُ ما أعظمَهُ في عيني صِغَرَ الدنيا في عينه. كان خارجًا من سلطان بطنه، فلا يتشهَّى ما لا يجد ولا يُكثر إذا وَجَدَ؛ وكان خارجًا من سلطان فَرْجِهِ، فلا يدعو إليه ريبة١٢٠ ولا يستخفُّ له رأيًا ولا بدنًا؛ وكان خارجًا من سلطان لسانه، فلا يقول ما لا يَعْلَمُ ولا ينازع فيما يعلم؛ وكان خارجًا من سلطان الجهالة فلا يُقْدِمُ أبدًا إلا على ثقةٍ بمنفعةٍ. كان أكثَرَ دهره صامتًا، فإذا نطق بَذَّ الناطقين. كان يُرَى متضاعفًا مستضْعَفًا، فإذا جاء الجِدُّ فهو الليث عاديًا. كان لا يدخُل في دَعْوى، ولا يشترك في مِراءٍ، ولا يُدْلي بحُجَّة، حتى يَرى قاضيًا عَدْلًا وشُهودًا عُدُولًا. وكان لا يلوم أحدًا على ما قد يكون العذر في مثله، حتى يعلم ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعًا إلَّا إلى مَن يرجو عنده البُرْءَ. وكان لا يستشير صاحبًا إلى من يرجو عنده النصيحة. وكان لا يتبرَّم، ولا يتسخَّط ولا يتشهَّى، ولا يتشكَّى. وكان لا ينقمُ على الوليِّ، ولا يَغْفُلُ عن العدُوِّ، ولا يخصُّ نفسَه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته. فعليك بهذه الأخلاق إنْ أطقتَ، ولن تطيق. ولكنَّ أخذَ القليل خيرٌ من ترك الجميع١٢١. واعلم أنَّ خيْر طبقاتِ أهل الدنيا طبقةٌ أصِفُها لك: مَنْ لَمْ ترتفِعْ عن الوضيعِ ولم تتَّضِع عن الرفيع. أي لمعارفك (Connaissances) الذين لم تصل درجتهم معك إلى درجة الصديق. وقد استعمل ابن المقفع لفظة المعارف أيضاً فيما سيجيء. العرض: جانب الرجل الذي يصونه من نفسه وحسبه أن ينتقص ويثلب، سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. أو موضع المدح والذم منه أو ما يفتخر به من حسب وشرف. روأ في الامر نظر فيه وتعقبه ولم يعجل بجواب. ومنه: الرويئة والروية للتفكر مع التدبر. أي حبسه والامتناع عن والامتناع عن الاستمرار فيه. السخف رتة العقل. الصلف: أن يتكلم الإنسان بما يكرهه صاحبه أو يتمدح بما ليس عنده. من التخلية أي الترك. أي المماثلين لك. أي فحملك هذا الفضل على أن تطلعه وتظهره وتبرزه. سبق شرحهما في الأدب الصغير . فليراجع هناك. وفي نسخة الشنقيطي: ولا تعبه. وكذلك في ع. وعند الامير شكيب: ولا تعتبه. تحتجز وتستبقي. في ع: فإنَّما هو حكمه ورضاه. وفي ش: فإنَّما حكمه رضاء. وقد ضبط الشنقيطى حكمه بفتح الحاء والكاف. في السلطانية وحدها: معذوراً. وفي ش::"صبرت على مقارته غير الرضى" بتشديد الراء. بمعنى إقراره والبقاء عليه. وهي رواية لا باس بها. وفي ع: صبرت على مقارنة غير الرضى. وفي ش وع:: "عاد ذلك إلى العيب والنقيضة". وفي ش و ع: "الاتئاد" مكررة. بمعنى الرزانة والتأني. وهي رواية جيدة جدًا. وأما الارتياد فمعناه التطلب ودقة البحث. وفي هذا اللفظ مع الذي يلية مجانسة ومشاكله. ويتعين هذا اللفظ كما يراه القارىء في الباب التالى الذي هو بمثابة شرح وبيان لهذا التحضيض. أي ممن يرتكب الأمور التي توجب التشنيع عليه والتعيير له. أي الغرور الذى توجيه ولاية الحكم ونفاذ الأمر. وهكذا في باق الكلمات التالية. في ش و ع: "تفرشك". ومعناه التبسط. وبينه وبين الانقباض مشاكلة. غير إننا اخترنا لفظة التقرب لقربها من الافهام ولانها هي الواردة في النسخة السلطانية التي اعتمدنا عليها. في ش: "وفسولة الاصدقاء". والفسولة صفة الفسل أي الرذل "بسكون الذال" الذي لا مروءة له. ولكن الكلام يدور على صديق السوء فروايتنا أمتن. لأن الفسولة لا تقابل البغض. أي اوجب لك العيب عند الناس. هكذا في جميع النسخ ولعلها تحريف لقوله يذيع. كتب الشنقيطي بخطه على هامش هذه القطعة البيتين المشهور من وهما: احـذَر عـدوَّك مـرَّةً واحذَر صَديقَكَ ألف مَرَّه فَلَرُبَّما اِنقَلَبَ الصَّديـ ـقُ فَكانَ أَعلَمَ بالمَضَرَّه ش: واحتجاز. ع: ولا تلفين "أي بالمبنى المجهول مع نون التوكيد الثقيلة". ش: و ع: بينات. ش: و ع: العقل. ش: و ع: أداة مغلبة "وضبطها الشنقيطي بالإضافة". ش و ع: اشتباه. كتب الشنقيطى بخطه على هامش هذا الموضع في نسخته ما نصه: وما منك الصديق ولست منه إذا لم يعنه شيء عناكا أي فاصنع جميلًا بالإحسان في التسلية له عما أصابه. هذا الباب وما يليه لغاية صفحة ورد في نسخة عاشر أفندي منقولًا عن موضعه اللائق به. فإن ابن المقفع يتكلم فيه وفيما يليه عن آداب الاخاء، وحلها في هذا للقسم الثاني لا في القسم الأول الذي هو خاص بآداب السلاطين والولاة. وقد ترتب على هذا الخرم اضطراب في السياق كما ستراه في حاشيته صفحة أي من شأنها التنقل من حال إلى حال. في النسخة السلطانية: عيانًا. وقد كتب الشنقيطى في نسخته على هامش هذا الباب بخطه ما نصه. عندِى حَدَائِقُ وُدٍ غَرسُ أنعُمِكُم قَد مَسَّها عَطَشٌ فَليسقِ من غَرَسا تَدَارِكوها وَفِى أغصانِها رَمَقٌ فَلَن يَعُودَ اخضِرَارُ العُودِ إِن يَبسا ش: طليق. سقط باقي الكلام هنا في نسخة عاشر أفندي فاضطرب المعنى واختل النظام. وقد تداركها الأمير شكيب توضع من عنده لفظة "واقله" تكميلًا لخبر الجملة. ولقد أحسن والله في ملافاة هذا النقص بما اوصله إليه اجتهاده. وأمَّا نسخة الشنقيطي فبقيت على حالها لا يفهم الإنسان منها شيئًا. والحمد لله الذي وفقنا للعثور على النسخة السلطانية ففيها الكمال. في هذا الموضع كما في كثير غيره. السورة "بفتح السين" هي الشدة والحدة. ضد الحلم "بالحاء المهملة" كما هو في غير هذا الموضع ضد العلم. الأنفة والعزة والنمرة. الجهل هذا هو ضد العلم "بالعين المهملة". أي استمرت واتقدت والتهبت. ش: أكثرهما. أي فيه صلابة وكثرة احتمال. في النسخة السلطانية: متحملًا. ورواية ش أفضل. الحفاظ هو الذب عن المحارم. ش: مواظبًا. ش: وبلغتك "بضم الباء". والتعلل أوقع في هذا الموضع. الأمير شكيب: واحداهما. وهو تصحيف من المطبعة ولا شك ش : تقابل. أفاده واستفاده وتفيده بمعنى واحد وهو اقتناه. ش: طَرْق النَبْل "بفتح النون وسكون الباء الموحد التحتية" هي السهام، مثل النبال. أي احترزوا منه. الإرب "بكسر الهمزة" الدهاء. أي ستره واراته. الهيبة المخافه والتقيه. أي فاجمع والمفعول هو قوله في آخر الجملة: طائفة من رأيك. الشجاعة والاقدام. الاستسهال والاستخفاف. في النسخة السلطانية: فخالف "بالمعجمه". ش: كلما. وهو وهم من الناسخ الأول. أي اتيت مثله وارتكبته. ش: فكابر. أي أبصرت وأحسست من نفسك. الضميران في كلمتي (له ، به) يعودان على أحصاء الإنسان عيوبه. ش : جانيًا. والتصحيف من الناسخ الأول إذ لا يستقيم المعنى في هذا المقام بالجناية كما يستقيم بالخيانة كما يدل عليه السياق . من أعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب. أي الغاية التي يتجه إليها نظرك. بدهه بأمر استقبله به مفاجأة. جمع بغتة وهي الفجأة. النسخة السلطانية: أوضع. يكره. بیته وداره. كتب الشنقيطى بخطه على هامش هذا الموضع من نسخته ما نصه: وَكُنتَ مَتَى أَرْسَلتَ طَرفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِر رَأَيْتَ الذِي لَا كُلُّهُ أنتَ قَادِر عَلَيهِ وَلَا عَن بَعْضِهِ أَنتَ صَابِر كتب الشنقيطي بخطه على هامش هذا الموضع من نسخته ما نصه: إِذَا بَارَكَ اللهُ فِي مَلَبَسٍ فَلا بَارَكَ اللهُ فِي البُرقُعِ يُرِيكَ عُيُونَ المَهَا غرَّةً وَتكْشِفُ عَنْ منظر أشتع يطردها ويمنعها. كتب الشقيطى بخطه على هامش هذا الباب من نسخته ما نصه: کن کاملًا وأرض بصف النعال ولا تكن صدرًا بغير الكمال فإن تصدرت بلا آلة صيرت ذاك الصدر صف النعال النسخة السلطانية: ما لم يعلم. ولهذه الرواية أيضًا وجه وجيه. أي تباعده وأبعده. وفي ش: اعرفه. وعندى أن هذه اللفظه اشتبهت على الناسخ فلم يعرف معناها فصحفها وظن أنه صححها الاحتجان الجذب إلى النفس. "هذا التفسير وارد في متن نسخة نور عثمانية، بغير فاصل وبدون تنبيه". عيب. الخَلَّة الخصلة "بفتح الخاء فيهما". أي الراحة. ش: تأخيره. في ش: المصنع المحصور. وقد أراد الأمير شكيب اصلاح هذا التركيب فقال: المصنع المحسود. وكلا الوجهين بعيد عن المعنى الذي يستلزمه السياق. ورواية النسخة السلطانية في منتهى المتانة والرصانة والمعنى واضح. وملائم لمقدمة الكلام. النسخة السلطانية: سرف "يفتح السين والراء". وهي رواية وجيهة أيضًا. الهذر سَقَط الكلام. "والسقط بفتح السين والقاف". أي احترس منها. في النسخة السلطانية: للأكاذيب. ش: وتسخر. وهو تصحيف من الناسخ لا يرتبط بالمعنى، كما يظهر من النظر في سياق الكلام بأدنى تأمل. أي ما يصعب عليك استخراج معناه. كتب الشنقيطي بخطه على هامش نسخته في هذا الموضع ما نصه: وَاِنْهَ المُشيرَ عَلَيكَ فيَّ بِضَلَّةٍ فَالحَرُّ مُمتَحِنٌ بِأَولادِ الزِنى كتب الشنقيطي بخطه على هذا الموضع من نسخته ما نصه: في المعنى: كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَبًا يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي كتب الشنقيطي بخطه على هامش هذا الموضع من نسخته ما نصه: في المعنى: عِشْ عَزِيزًا أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ تَحْتَ ظلّ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ فَرُؤوسُ الرِّمَاحِ أَذْهَبُ لِلْغَيْـ ـظِ وَأَشْفَى لِغِلِّ الحَسودِ لَا كَمَا قَدْ حَيِيتَ غَيْرَ حَمِيدٍ وَإِذَا مِتَّ مِتَّ غَيْرَ فَقِيدِ فَاطْلُبِ الْعِزَّ فِي لَظَى وَاترك الذُّلََ وَلَوْ كَانَ فِي جِنَانِ الْخُلُودِ يُفتَك الْعَاجِزُ الْجَبَانُ وَقَدْ يُعْجِزُ عَنْ قَطْعِ بِخُنْقِ الْمَوْلُودِ وفى المعنى: وإذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌّ فَمِنَ العَجْز أَنْ تَمُوتَ جَبَانًا لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبْ فَقَدْ رَفَعَ الْإِسْـلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ وَقَدْ وَضَـعَ الشِّرْكُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبْ فى النسخة السلطانية: "بالشر". والمعنى واحد. الجور عن الحق. الزميت: الوقور. والزميت: الكثير الوقار. وفي النسخة السلطانية: "زمينًا" وهو تصحيف وخطأ. أي فصیح. كثير الكلام في الخطاء والباطل. في النسخة السلطانية: مخالطة. في ش ع: الأعجمي. في ش ع: عادوه. في ش ع: ليعلم صاحبك انك حَدِبٌ على صاحبه. والمعنى متعطف عليه) في ش ع: وتستجفيه. وبقية الكلام تؤيد روايتنا. في ش ع: "ويسلُّ". والمعنى واحد ولكن الأمير شكيب صححها فجعلها "يسهل". ولا وجه للتصحيح. أي الحقد والضغن والعداوة. وفى النسخة السلطانية: "العدو". البأو هو الفخر والكبر والتيه. البغض. أي على غير عهدة ولا ثقة. ومنه بيع الغرر مثل يبع السمك في البحر، والطير في الهواء. في ش ع: فلا تمتن. زري عليه: عابه. الاستكانة والخضوع. في ش ع: وتغيُّر نفس. في ش ع: "سارعها". وقد قرب الأمير شكيب من الحقيقة حينما أصلح هذا الحرف فجمله: "شاركها". الاحتلاط هو الاجتهاد في الحلف واليمين وهو المبالغة في الغضب أيضًا. وقد ورد هذا الحرف على الصواب في نسخة الشنقيطي دون سائر النسخ الأخرى، فقد ورد فيها هكذا: "الاختلاط" بالخاء المعجمة. وهو تصحيف ظاهر. في ش ع: "ولا تعلم" بدلًا من "مخطئًا". والجملة التالية ساقطة. هذه الجملة ينقصها كلمات كثيرة في ش ع بحيث صارت مضطربة لا توءدى إلى معني بل تخالف سياق الكلام وانتظام الفكر. في ش، ع: ونقيصتهم في ش: مؤونة. تضمنت النسخة السلطانية وحدها (في هذا الموضع) فقرة واردة في "الأدب الصغير" (ص ۳۰ و ۳۱) مع زيادة ونقص في اللفظ دون المعنى. فلم نر وجهاً لتكرارها هنا. ​الأدب الكبير​ المؤلف ابن المقفع القسم الثاني ============= ​الأدب الكبير​ المؤلف ابن المقفع في معاملة الأصدقاء بَابُ ابْذُلْ لصديقك دَمَك ومالَكَ، ولمعرفتك١ رِفْدك ومَحْضَرك، وللعامَّة بِشْرَك وتحنُّنَك، ولعدوِّك عَدْلك وإنصافك. واضْنِن على كل أحد بدِينك وعِرْضِك٢، إلا أَنْ تُضْطَرَّ إلى بذل العرض لوال أو والد . فأما للولد فمن سواه، فلا. بَابُ إنْ سمعت من صاحبك كلامًا أو رأيتَ منه رأيًا يعجبك، فلا تنتحِلْه تَزَيُّنًا به عند الناس. واكتفِ من التزيُّن بأن تجتني الصَّواب إذا سمعته، وتنسُبَه إلى صاحبه. واعلم أنَّ انتحالك ذلك مسخطةٌ لصاحبك، وأنَّ فيه مع ذلك عارًا وسُخْفًا. فإن بلغ بك ذلك أنْ تُشير برأي الرجل وتتكلمَ بكلامه، وهو يسمع، جَمَعْتَ مع الظلم قِلَّةَ الحياء. وهذا من سُوء الأدب الفاشي في الناس. ومن تمام حُسن الخُلُق والأدب في هذا الباب أنْ تَسْخُو نفسُك لأخيك بما انتحلَ من كلامك ورأيك، وتنسُبَ إليه رأيه وكلامه، وتُزيِّنَه مع ذلك ما استطعت. ولا يكوننَّ من خُلُقِك أنْ تبتدئ حديثًا ثم تقطعه وتقول: سوف، كأنك رَوَّأتَ٣ فيه بعد ابتدائك إياه، وليكن تروِّيك فيه قبل التفوُّه به. فإن احتجان٤ الحديث بعد افتتاحه سُخْف وغمٌّ. بَابُ اخزُنْ عقلك وكلامك، إلَّا عند إصابة الموضع. فإنه ليس في كلِّ حين يحسُنُ كلُّ صواب. وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة موضعه. فإن أخطأك ذلك، أدخلتَ المِحنة على عقلك وقولك، حتى تأتي به في موضعه. وإنْ أتيت به في غير موضعه، أتَيْتَ به وهو لا بَهاء ولا طُلاوة له. وليعرفِ العلماء حين تُجالسهم، أنَّك على أنْ تسمعَ أحرص منك على أنْ تقول. إن آثرتَ أنْ تُفاخر أحدًا ممن تستأنِس إليه في لَهْو الحديث، فاجعلْ غاية ذلك الجِدَّ، ولا تعتدْ أنْ تتكلم فيه بما كان هزلًا. فإذا بلغ الجِدَّ أو قارَبَهُ فدَعْهُ. ولا تخلطنَّ بالجدِّ هزلًا، ولا بالهزل جِدًّا. فإنك إنْ خلَطتَ بالجد هزلًا هجَّنته، وإنْ خلطت بالهزل جدًّا كدرته. غير أني قد علِمْتُ مَوْطنًا واحدًا إنْ قدرت أنْ تَستقبِلَ فيه الجِدَّ بالهزل، أصبتَ الرأي وظهرتَ على الأقران؛ وذلك أنْ يتورَّدَك متورِّدٌ بالسفه والغضب وسُوء اللفظ. فتجيبه إجابة الهازل المداعب، بُرحْبٍ من الذَّرْع وطلاقةٍ من الوجه وثباتٍ من المنطق. إنْ رأيت صاحبك مع عدوِّك، فلا يُغضبنَّك ذلك. فإنما هو أحد رجلين: إنْ كان رجلًا من إخوان الثقة، فأنفعُ مَواطِنه لك أقربُها من عدوِّك؛ لشَرٍّ يكفه عنك، أو لعورة يسترها منك، أو غائبة يطَّلع عليها لك. فأمَّا صديقك، فما أغناك أنْ يحضره ذو ثقتك. وإنْ كان رجلًا من غير خاصَّة إخوانك، فبأي حقٍّ تقطعه عن الناس وتُكَلِّفه أن لا يُصاحبَ ولا يُجالسَ إلَّا مَن تهوى؟ تحفَّظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطِبْ نفسًا عن كثير ممَّا يعرِض لك فيه صوابُ القول والرأي، مداراةً لأَنْ يظُنَّ أصحابك أنَّك إنما تُريد التطاول عليهم. بَابُ إذا أقبل إليك مُقبلٌ بِوُدِّهِ فَسَرَّك ألَّا يُدبر عنك، فلا تُنعِم الإقبال عليه والتفتُّح له. فإن الإنسان طُبع على ضرائب لُؤم: فمن شأنه أَنْ يَرحَلَ عمَّن لَصِق به. ويلصَقَ بمن رَحَل عنه، إلَّا من حفِظ بالأدب نفسَه وكابر طبعَه. فتحفظ من هذا فيك وفي غيرك! بَابُ لا تُكثِرنَّ ادِّعاء العلم في كل ما يعرِض بينك وبين أصحابك. فإنَّك من ذلك بين فضيحتَيْن: إمَّا أنْ ينازعوك فيما ادَّعيتَ، فيُهْجَم منك على الجهالة والسخف٥ والصَّلَف٦؛ وإمَّا أنْ لا ينازعوك ويُخَلُّوا٧ في يديْك ما ادَّعيتَ من الأمور، فينكشفَ منك التصنُّع والمَعْجَزَةُ. واستحِ الحياءَ كلَّه من أنْ تخبر صاحبك أنَّك عالم وأنه جاهل؛ مصرِّحًا أو مُعَرِّضًا. وإنْ استطلت على الأكْفَاء٨، فلا تثقنَّ منهم بالصفاء. بَابُ وإنْ آنَسْتَ من نفسك فضلًا، فتَطلعَ٩ منك على أنْ تذكره أو تُبْديه، فاعلمْ أنَّ ظهوره منك بذلك الوجه يقرِّر لك في قلوب الناس من العيبِ أكثرَ مما يقرِّر لك من الفضل. واعلمْ أنَّك إنْ صَبَرْتَ ولم تَعْجَلْ، ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند الناس. ولا يَخفَيَنَّ عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده وقِلَّةَ وقاره في ذلك بابٌ من أبواب البخل واللؤم. وأنَّ من خير الأعوان على ذلك السخاءَ والتكرُّمَ. بَابُ وإنْ أردت أنْ تَلبَسَ ثوب الوقار والجمال، وتتحلَّى بحلية المودَّة عند العامة، وتسلك الجَدَدَ١٠ الذي لا خَبار١٠ فيه ولا عثَار، فكن عالمًا كجاهل وناطقًا كعييٍّ. فأمَّا العلم فيزينك ويرشدك، وأمَّا قلة ادعائه فينفي عنك الحسدَ، وأمَّا المنطق (إذا احتجت إليه) فستبلغ منه حاجتك، وأمَّا الصمت فيُكْسبك المحبة والوقار. وإذا رأيت رجلًا يحدِّث حديثًا قد علمتَه أو يُخْبِر خبرًا قد سَمِعْتَه، فلا تشاركه فيه ولا تفتحْه١١ عليه، حِرصًا على أنْ يَعلم الناس أنك قد علمته. فإنَّ في ذلك، مع سوء الأدب، خفةً وسُخفًا وحسدًا وتضييعَ حزمٍ وعجبًا. بَابُ لْيعرفك إخوانُك — والعامة إنْ استطعت — أنك إلى أنْ تفعل ما لا تقول أقربُ منك إلى أنْ تقول ما لا تفعل. فإنَّ فضلَ القول على الفعل عارٌ وهُجنةٌ، وفضل الفعل على القول زينةٌ. وأنت حقيقٌ فيما وعدتَ من نفسك أو أخبرتَ به صاحبك من منزلة عندك أنْ تحتجن١٢ بعض ما في نفسك، إعدادًا لفضل الفعل على القول وتحرُّزًا بذلك عن تقصير فعل إن قصَّر. وقلَّما يكون إلَّا مقصِّرًا. بَابُ احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتُك فيما بينك وبين عدوِّك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضاء. وذلك أنَّ العدوَّ خَصْمٌ تَصْرَعُه بالحجَّة وتغلِبه بالحكّام، وأنَّ الصديق ليس بينك وبينه قاض، فإنَّما هو رضاه حَكَمُه١٣. بَابُ اجعل غاية تيّنك في مؤاخاة مَن تؤاخي ومواصلة من تواصل وطينَ نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك، وإنْ ظهر لك منه ما تكره. فإنه ليس كالمملوك تُعتِقه متى شئت، أو كالمرأة التي تُطِلّقها إذا شئْتَ، ولكنَّه عِرضُك ومروءتك. فإنَّما مُرُوّة الرجل إخوانه وأخدانه. فإِنْ عَثَرَ الناس على أَنك قطعتَ رجلًا من إخوانك — وإنْ كنت مُعذرًا١٤ — نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والمَلال فيه. وإنْ أنت مع ذلك تصَبَّرْتً على مقاربته١٥ على غير الرضَى، عاد ذلك إلى العيب والنقيصة١٦. فالاتيادَ١٧ الاتياد! والتثبُّتَ التثبُّت! بَابُ وإذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائك، فإنْ كان من إِخوان الدِين، فليكن فقيهًا غير مُراءٍ ولا حريصٍ؛ وإِنْ كان من إِخوان الدنيا، فليكن حرًّا ليس بجاهل ولا كذاب ولا شِرِّير ولا مشنوع١٨. فإِنَّ الجاهلَ أهلٌ أنْ يهرُبَ منه أبَوَاه؛ وإِنَّ الكذَّاب لا يكون أخًا صادقًا، لأن الكَذِب الذي يجري على لسانه إِنما هو من فضول كذِب قلبه (وإِنما سمي الصديق من الصدق، وقد يُتَّهم صِدق القلب وإِنْ صدق اللسان، فكيف إذا ظهر الكذب على اللسان؟)؛ وإن الشِرِّير يَكسِبُك الأعداء، ولا حاجة لك في صداقةٍ تجلب العداوة؛ وإنَّ المشنوع شانِعٌ صاحبَهُ. بَابُ تحرَّزْ من سُكْر السلطان١٩ وسُكْر المال وسُكْر العلم وسُكْر المنزلة وسُكْر الشباب. فانه ليس من هذا شيءٌ إلا هو ريح جِنَّة تَسْلِب العقل وتَذهَب بالوقار وتَصْرِف القلبَ والسمعَ والبصرَ واللسان إلى غير المنافع. بَابُ اعلم أنَّ انقباضك عن الناس يُكسِبُك العداوة، وأنَّ تقرُّبك٢٠ إليهم يكسبك صديق السوء. وسوءُ٢١ الأصدقاء أضرُّ من بُغْض الأعداء. فإنك إِنْ واصلتَ صديق السوء عْيَتْك جرائرُه، وإن قطعته شانَك٢٢ اسم القطيعة وألزمك ذلك من يرفع٢٣ عيبَك ولا ينشرُ عُذرَك. فإن المعايب تَنْمي والمعاذيرَ لا تنمي٢٤. بَابُ الْبَسْ للناس لباسين ليس للعاقل بُدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءة إلَّا بهما: لباسَ انقباض واحتجاز٢٥ من الناس، تلبسه للعامة فلا يلقَوْنَك٢٦ إلَّا متحفِّظًا متشددًا متحرِّزًا مستعدًّا؛ ولباسَ انبساط واستئناس، تلبَسُهُ للخاصّة الثقات من أصدقائك. فتلقاهم بذات٢٧ صدرك وتُفضي إليهم بمصون حديثك وتضع عنك مئونة الحَذَر والتحفُّظ فيما بينك وبينهم. وأهل هذه الطبقة — الذين هم أهلها — قليلٌ من قليل حقًّا. لأن ذا الرأي لا يُدخل أحدًا من نفسه هذا المَدْخَل إِلَّا بعد الاختبار والتكشُّف والثقة بصدق النصيحة ووفاء العهد٢٨. إِعلم أَنَّ لسانك أداةٌ مُصْلَتَةٌ٢٩، يتغالب عليه عقلك وغضبك وهواك وجهلك. فكلُّ غالب عليه مستمع به وصارفه في محبته. فإذا غلب عليه عقلك فهو لك، وإنْ غلب عليه شيءٌ من أشباه ما سمَّيْتُ لك فهو لعدوك. فإِنِ استطعتَ أنْ تحتفظ به وتصونه فلا يكون إلَّا لك، ولا يستولي عليه أو يشاركك فيه عدوُّك فافْعَلْ. إذا نابتْ أَخاك إِحدَى النوائب من زوال نعمة أو نزول بليَّة، فاعلم أَنك قد ابتُليت معه: إمَّا بالمؤاساة فتشاركه في البليَّة، وإمَّا بالخذلان فتحتمل العار٣٠. فالتمس المَخرج عند أشباه٣١ ذلك، وآثِر مُرُوءَتك على ما سواها. فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسُك مشاركة أخيك فيها فأجمل٣٢. فلعلَّ الإجمال يَسَعُك؛ لقلَّة الإِجمال في الناس. بَـابُ٣٣ إذا أصاب أخوك فضلَ منزلة أو سلطان فلا تُرِيَنَّه أنَّ سلطانه قد زادك له وُدًّا، ولا يعرِفَنَّ منك عليه بماضي إخائك تدلُّلًا. وأَرِهِ أنَّ سلطانه زادك له توقيرًا وإجلالًا من غير أنْ يقدِر أنْ يزيده وُدًّا ولا نُصحًا، وأنك ترى حقًّا للسلطان التوقيرَ والإجلال. فكُنْ في المداراة له والرفق به كالمؤتنف لما قبله! ولا تقدِّر الأمور فيما بينك وبينه على شيء مما كنت تعرِف من أخلاقه! فإنَّ الأخلاقَ مستحيلةٌ٣٤ مع السلطان. وربما رأينا الرجل المُدِلَّ على السلطان بقِدَمِه قد أضرَّ به قِدَمُه. بَابُ لا تعتذرنَّ إلَّا إلى مَن يُحِبُّ أنْ يجد لك عذرًا، ولا تستعينَّ إلَّا بمن يُحب أنْ يُظفِرَك بحاجتك. ولا تُحدِّثنَّ إلَّا من يرى حديثك مَغْنَمًا، ما لم يغلِبْك اضطرارٌ. بَابُ إذا غَرَسْتَ من المعروف غَرسًا وأنفقت عليه نفقةً فلا تَضِنَّنَّ في تربية ما غرست واستنمائه، فتذهب النفقة الأولى ضَياعًا٣٥. إذا أعتذر إليك معتذر، فتلفه بوجه مُشْرِقٍ وبشر ولسان طلقٍ٣٦ إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة. بَابُ اعلم أنَّ إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا. هم زينةٌ في الرخاء وعُدَّةٌ في الشدَّة ومعونةٌ على خير المعاش والمعاد. فلا تُفَرّطَنَّ في اكتسابهم وابتغاء الوُصُلات والأسباب إليهم. اعلم أنك واجدٌ رغبتك من الإخاء عند أقوام قد حالتْ بينك وبينهم بعض الأُبَّهة التي قد تعتري بعض أهل المروآت فتحجز عنهم كثيرًا ممن يرغب في أمثالهم. فإذا رأيت أحدًا من أولئك قد عَثَر به الدهر وعَرفتَ نفسك٣٧ أَنَّه ليس عليك في دُنوِّك منه وابتغائك مودَّته وتواضعك له مَذَلَّةٌ، فاغتنم ذلك منه واعمل فيه. إذا كانت لك عند أحد صنيعةٌ أو كان لك عليه طَوْلٌ فالتمس إِحياءَ ذلك بإِماتته وتعظيمه بالتصغير له. ولا تقتصرنَّ في قلة المنِّ به على أنْ تقول: «لا أذكُرُهُ ولا أصغي بسمعي إلى مَن يذكره». فإن هذا قد يستحي منه بعض من لا يوصف بعقل ولا كَرَم. ولكن احذَرْ أنْ يكونَ في مجالستك إيَّاه وما تُكلِّمُهُ به أو تستعينُهُ عليه أو تُجاريه فيه شيءٌ من الاستطالة. فإِنّ الاستطالةَ تهدِم الصنيعة وتُكدِّر المعروف. بَابُ احترس من سَوْرة٣٨ الغضب٣٩ وسَوْرة الحمية٤٠ وسَوْرة الحقد وسَوْرة الجهل٤١ وأعدِدْ لكلِّ شيء من ذلك عُدَّةً تجاهده بها من الحلم والتفكُّر والرويَّة، وذِكر العاقبة وطلب الفضيلة. واعلم أنَّك لا تُصيبُ الغَلَبة إلَّا بالاجتهاد والفضل، وأنَّ قِلَّة الإعداد لمدافعة الطبائع المتطلعة هو الاستسلام لها. فإنّه ليس أحَدٌ من الناس إلَّا وفيه من كل طبيعةٍ سوء غريزة. وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء. فأمَّا أنْ يَسْلمَ أحدٌ من أنْ تكون فيه تلك الغرائز شيءٌ، فليس في ذلك مطمعٌ. إلَّا أنَّ الرجل القويَّ، إذا يَرُدُّها بالقمع لها كلما تطلَّعتْ، لم يلبث أنْ يُميتها حتى كأنها ليست فيه. وهي في ذلك كامنة ككُمون النار في العُود والحجر. فإذا وَجَدت قادحًا من علة أو غفلةً، استورت٤٢ كما تستوري النار عند القدح في الحطب ثم لا يبدأ ضرُّها إلَّا بصاحبها، كما لا تبدأ النار إلَّا بعُودها الذي كانت فيه. بَابُ ذَلِّلْ نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء. فإن ذلك مما لا يكاد يُخْطِئُك. واعلم أنَّ الصبر صبران: صبرٌ المرء على ما يكرَهُ، وصبره عما يُحِبُّ. والصبر على المكروه أكبرهما٤٣، وأشبههما أنْ يكون صاحبه مُضطَرًّا. واعلم أنَّ اللئام أصبر أجسادًا، وأنَّ الكرام هم أصبر نفوسًا. وليس الصبر الممدوح بأنْ يكون جِلْدُ الرجل وَقَاحًا٤٤ على الضرب، أو رِجلُه قويَّة على المشي، أو يدُه قويةً على العمل. فإنما هذا من صفات الحَمير. ولكنَّ الصبر الممدوح أنْ يكون للنفس غَلُوبًا، وللأمور محتملًا، وفي الضَّرَّاء متجمَّلًا٤٥، ولنفسه عند الرأي والحِفَاظِ٤٦ مرتبطًا، وللحزم مُؤْثِرًا، وللهوَى تاركًا، وللمشقّة التي يرجو حسن عاقبتها مستخفًّا، ولنفسه على مجاهدة الأهواء والشهوات مُوَطِّنًا٤٧ ولبصيرته بعزمه مُنفِّذًا. حبِّبْ إلى نفسك العلْمَ حتى تلزمه وتألفه، ويكون هو لهْوَك ولذَّتك وسلوتك وتعلُّلَك٤٨ وشهْوَتك. واعلم أنَّ العلم علمان: علمٌ للمنافع، وعلمٌ لتذكية العقول. وأفشى العِلْمين وأحراهما٤٩ أنْ يَنْشطَ له صاحبُه من غير أنْ يُحَضَّ عليه علمُ المنافع. والعلْمُ الذي هو ذكاء العقول وصِقالها وجلاؤُها له فضيلة منزلةٍ عند أهل الفضيلة والألباب. بَابُ عوِّدْ نفسك السخاء. واعلم أنه سخاآن: سَخاوةُ نفْس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيْدي الناس. وسَخاوة نفْس الرجل بما في يديه أكثرهما وأقربهما من أنْ تدخل فيه المفاخرة. وتركه ما في أيدي الناس أمحضُ في التكرُّم وأبرأُ من الدَّنَس وأنزه. فإن هو جمعهما فَبَذَلَ وعفَّ، فقد استكمل الجود والكرم. بَابُ ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك أن لا تكون حسودًا. واعلم أنّ الحسد خُلُقٌ لئيمٌ. ومن لؤمه أنه موكَّل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكْفاء والمعارف والخُلَطاء والإخوان. فليكن ما تعامل٥٠ به الحسدَ أنْ تعلَمَ أنَّ خير ما تكونُ حين تكون مع من هو خير منك، وأنَّ غُنْمًا حسنًا لك أنْ يكون عشيرك وخليطك أفضلَ منك في العلم فتقتبسَ من علمه، وأفضلَ منك في القوَّة فيدفع عنك بقوّته، وأفضلَ منك في المال فتُفيدَ٥١ من ماله، وأفضلَ منك في الجاه فتُصيبَ حاجتك بجاهه، وأفضلَ منك في الدِّين فتزدادَ صلاحًا بصلاحه. بَابُ ليكنْ مما تنظر فيه من أمر عدوِّك وحاسدك أن تعلم أنه لا ينفعُك أنْ تخبِر عدوَّك وحاسدَك أنَّك له عدوٌّ، فتُنْذِرُهُ بنفسك وتُؤذِنه بحربك قبل الإعداد والفرصة. فتحملُه على التسلُّح لك وتُوقِدُ ناره عليك. واعلمْ أنَّه أعظمُ لَخطرِك أنْ يرى عدوُّك أنّك لا تتخذه عدوًّا. فإِنّ ذلك غِرَّةٌ له وسبيلٌ لك إلى القدرة عليه. فإنْ أنت قدرت واستطعت اغتفارَ العداوة عن أن تكافئ بها، فهنالك استكملت عظيمَ الخَطَر. إنْ كنتَ مُكافئًا بالعداوة والضرر، فإيَّاك أنْ تكافئ عداوة السرِّ بعداوة العلانَية، وعداوةً الخاصَّة بعداوة العامّة. فإنَّ ذلك هو الظلم والاعتداء. واعلم مع ذلك أنَّه ليس كل العداوة والضرر يُكافأ بمثله. كالخيانة لا تُكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة. ومن الحيلة في أمرك مع عدوِّك أنْ تصادق أصدقاءه وتؤاخي إخوانه، فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتلاحي والتجافي حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعة والعداوة له. فإنَّه ليس رجلٌ ذو طَرْف يمتنع من مؤَاخاتك إذا التمست ذلك منه. وإِنْ كان إِخوان عدوِّك غير ذوي طَرْف٥٢، فلا عدوَّ لك. بَابُ لا تَدَعْ — مع السكوت عن شَتْمِ عدوّك — إحصاء مثالبه ومعايبه ومعايره واتِّباعَ عوراتِه، حتى لا يشذُّ عنك من ذلك صغير ولا كبير، من غير أنْ تشيع ذلك عليه، فيتسلَّحَ له، ويستعدَّ له. ولا تذكره في غير موضعه، فتكون كمستعرض الهواءَ بنَبْلِه٥٣ قبل إِمكان الرمي. ولا تتخذنَّ اللعن والشتم على عدوِّك سلاحًا، فإنه لا يجرح في نفْسٍ ولا منزلةٍ ولا مال ولا دِينٍ. بَابُ إِنْ أردت أنْ تكون داهيًا، فلا تُحبَّنَّ أنْ تسمَّى داهيًا. فإِنّه مَن عُرِفَ بالدهاء، صار مخاتلا علانيةً، وحذِرَهُ الناس٥٤ حتى يمتنع منه الضعيف ويتعرَّض له القويُّ. فإنَّ من إرْب٥٥ الأريب دفنُ٥٦ إرْبه ما استطاع حتَّى يُعْرف بالمسامحة في الخليقة والاستقامة في الطريقة. ومن إرْبه ألَّا يوارب العاقل المستقيم الطريقة والذي يطلع على غامض إرَبه ويوقفه عليه، فيَمْقُته لذلك. وإنْ أَردتَ السلامة فأَشْعِر قلبك الهيبة٥٧ للأمور، من غير أنْ تَظهرَ منك الهيْبةُ، فتُفطنهم بنفسك وتجرِّئَهم عليك وتدعو إليك منهم كلَّ الذي تهاب. فاشْعَبْ٥٨ لمداراة ذلك من كتمان الهيبة وإظهار الجُرأة٥٩ والتهاون٦٠ طائفة من رأيك. وإنْ ابْتُليتَ بمحاربة عدوك فحالفْ٦١ هذه الطريقة التي وصفتُ لك من إِستشعار الهيبة وإِظهار الجُرْأة والتهاون. وعليك بالحذر والجِدِّ في أمرك والجُرأة في قلبك، حتى تملأ قلبَك جَرأةُ ويستفرِغَ عملك الحِذْرَ. بَابُ اعلمْ أنَّ من عدوِّك من يعمل في هلاكك، ومنهم من يعمل في مُصالحتك، ومنهم من يعمل في البعد منك. فاعرفهم على منازلهم. ومن أَقوى القوَّة لك على عدوِّك، وأعزِّ أنصارك في الغَلَبَة له أنْ تُحصيَ على نفسكَ العيوبَ والعوراتِ كما٦٢ تحصيها على عدوك، وتنظُرَ عند كل عيب تراه أو تسمعه لأحدٍ من الناس هل قارفتَ٦٣ ذلك العيبَ أَو ما شاكله، أو سلِمْتَ منه. فإنْ كنت قارفتَ شيئًا منه، جعلته مما تخصى على نفسك. حتى إذا أحصيت ذلك كله ، فكاثر٦٤ عدوك بإصلاح نفسك وعثراتك، وتحصين عوراتك وإحراز مقاتلك. وخذ نفسك بذلك مسيًا ومصبحًا. فإذا آنسْتَ منها٦٥ دفعًا له وتهاونًا به٦٦، فأعدد نفسك عاجزًا ، ضائعًا ، خائبًا٦٧ ، مُعْوِرًا٦٨ لعدوّك، مُمْكِنًا له من رمْيك. وإنْ حصل من عيوبك وعوراتك ما لا تقدِر على إِصلاحه من ذنبٍ مضى لك أو أمرٍ يعيبُك عند الناس ولا تراه أَنت عيبًا، فاحفظ ذلك واجعله نُصْبَ عينيك٦٩ ولا تقل: وما عسى يقول فيَّ القائل؟ فاعلم أنَّ عدوَّك مُريدُك بذلك. فلا تغفل عن التَّهيُّوءِ له بحيلتك فيه سرًّا وعلانيةً، وعن الإعداد لقوَّتك وحُجتك من نسبك ومثالب آبائك أو عيب إخوانك وأخدانك. فأمَّا الباطل فلا تَرُوعَنَّ به قلبَك ولا تستَعِدَّنَّ له ولا تشتغلنَّ بشيءٍ من أمره. فإنّه لا يَهُولك ما لم يقع، وما إنْ وقع اضمحل. واعلم أنه قلَّما بُدِهَ٧٠ أحد بشيء يعرفه من نفسه — وقد كان يطمع في إِخفائه عن الناس — فيُعَيِّرُه به مُعَيِّرٌ عند السلطان أو غيره، إِلا كاد يشهَد به عليه وجهُهُ وعينُهُ ولسانُهُ للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتُوره عند تلك البديهة. فاحذرْ هذه وتصنَّع لها، وخُذْ أُهبتك لبغَتَاتها٧١، وتقدَّم في أخذ العتاد لنفيها. بَابُ اعلمْ أنَّ مِن أوقع٧٢ الأمور في الدِّين وأنهكها للجسد وأتلفها للمال وأقتلها للعقل وأزراها للمُرُوءة وأسرعها في ذهاب الجلالةِ والوقارِ: الغرامُ بالنساء. ومن البلاء على المُغْرَم بهنَّ أنَّه لا ينفك يأجَمُ٧٣ ما عنده وتطمحُ عيناه إلى ما ليس عنده منهنَّ. وإنما النساء أشباهٌ. وما يَتَزَيَّنُ في العيون والقلوب من فضْل مجهولاتهنَّ على معروفاتهنَّ باطلٌ وخُدْعةٌ، بل كثير مما يَرْغَبُ عنه الراغب مما عنده أفضلُ مما تتوق إِليه نفسه منهنَّ. وإنما المرتغِبُ عمّا في رَحلْه٧٤ منهنَّ إِلى ما في رِحَال الناس كالمرتغِبِ عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس: بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام؛ وما في رحال الناس من الأطعمة أشدُّ تفاضلًا وتفاوتًا مما في رحالهم من النساء٧٥. ومن العَجَب أنَّ الرجل الذي لا بأْسَ بلُبِّهِ ورأْيه يرى المرأة من بعيد متلفِّفَةً في ثيابها، فيصوِّرُ لها في قلبه الحسنَ والجمالَ حتى تَعْلَقَ بها نفسُه من غير رُؤْية ولا خَبَرِ مُخبِرٍ. ثُمَّ لَعَلَّه يهجِم منها على أقبح القُبْح وأذَمِّ الدَّمامة٧٦، فلا يعظه ذلك ولا يقطعه عن أمثالها. ولا يزال مشعوفًا بما لم يذُقْ، حتى لو لم يبقَ في الأرض غيرُ امرأةٍ واحدةٍ، لظنَّ أنَّ لها شأنًا غيرَ شأن ما ذاق. وهذا هو الحُمقُ والشقاءُ والسفهُ. ومن لم يَحْمِ نفسه ويُطَلِّقها ويُحَلِّئها٧٧ عن الطعام والشراب والنساء في بعضِ ساعاتِ شهوته وقُدْرته، كان أيسرَ ما يصيبه من وبالِ ذلك انقطاعُ تلك اللذَّات عنه بخمود نار شهوته وضُعْف حوامل جسده. وقلَّ من تجدُه إلا مخادِعًا لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحِمْية والدواء، وفي أمر مُرُوءته عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دِينه عند الرِّيبة والشُّبْهة والطمع. بَابُ إنِ استطعتَ أن تضع نفسك دون غايتك في كلِّ مجلسٍ ومقامٍ ومقالٍ ورأيٍ وفعلٍ، فافعلْ. فإِنَّ رفعَ الناس إيَّاك فوق المنزلة التي تحُطُّ إِليها نفسَك وتقريبَهم إيَّاك إِلى المجلس الذي تباعدْتَ منه وتعظيمَهم من أمرك ما لم تعظِّم وتزيينَهم من كلامك ورأيك وفعلك ما لم تُزيِّنْ هو الجَمالُ٧٨. بَابُ لا يُعْجِبَنَّك العالِمُ ما لم يكن عالمًا بمواضع ما يَعلَم٧٩، ولا العاملُ إذا جَهِل موضع ما يعمَلُ. بَابُ وإنْ غُلبْتَ على الكلام وقتًا، فلا تُغلَبَنَّ على السكوت! فإنَّه لعله يكون أشدَّهما لك زينةً وأجلبهما إليك للمودة وأبقاهما للمهابة وأنفاهما للحَسَد. بَابُ احذر المِرَاء وأغْرِبْهُ٨٠. ولا يمنعنَّك حَذَر المِرَاء من حُسْنِ المناظرة والمجادلة. واعلمْ أنَّ المماري هو الذي يريد أن يتعلَّم من صاحبه، ولا يرجو أن يتعلم منه صاحبه. فإنْ زعم زاعمٌ أنَّه مُجادلٌ في الباطل عن الحقِّ، فإِنّ المُجَادِلَ وإنْ كان ثابت الحُجَّة حاضرَ البيِّنة حاضر الذهن فإنَّه يخاصم إلى غير قاضٍ، وإنَّما قاضيه الذي لا يعدِلُ بالخُصومة إليه عدلُ صاحبه وعقلُه. فإِنْ آنَسَ أو رجا عند صاحبه عَدْلًا يقضي به على نفسه، فقد أصاب وجه أمره. وإذا تكلم على غير ذلك كان مماريًا. وإنِ استطعت أن لا تُخْبِرَ أخاك عن ذات نفسك بشيء إلا وأنت محتجنٌ٨١ عنهَ بعض ذلك التماسًا لفضل الفعل على القول واستعدادًا لتقصير فعل إن قصَّر، فافعل. واعلم أنَّ فضل الفعل على القول زِينةً، وفضلَ القول على الفعل هُجْنَةٌ٨٢ وأن إحكام هذه الخَلَّة٨٣ من غرائب الخلال. إذا تراكمت عليك الأعمال، فلا تلتمِسِ الرَّوْح٨٤ في مدافعتها يومًا بيومٍ بالرَّوغان منها. فإنه لا راحةَ لك إلَّا في إصدارها. وإنَّ الصبر عليها هو الذي يخفِّفها عنك، والضَّجَرَ هو الذي يراكمها عليك. فتعهَّدْ من ذلك في نفسك خَصلة قد رأيتُها تعتري بعض أصحاب الأعمال. وذلك أنَّ الرجل يكون في أمرٍ من أمره فَيرِدُ عليه شغلٌ آخرُ أو يأتيه شاغلٌ من الناس يكره إتيانه٨٥، فيكدِّرُ ذلك بنفسه تكديرًا يُفسدُ ما كان فيه وما ورد عليه، حتى لا يُحْكِمَ واحدًا منهما. فإذا ورد عليك مِثْلُ ذلك، فليكن معك رأيك وعقلك اللذان بهما تختار الأمور، ثُمَّ اخترْ أَوْلَى الأمريْن بشغلك فاشتغل به حتى تفرُغ منه. ولا يعظُمَنَّ عليك فَوْتُ ما فات وتأخيرُ ما تأخَّرَ. بَابُ إذا أعملتَ الرأي مُعْمَلَهُ وجعلتَ شغلك في حقّه، واجْعَلْ لنفسك في كلّ شغلٍ غايةً ترجو القوة والتمام عليها. بَابُ اعلمْ أنك إنْ جاوزتَ الغاية في العبادة، صِرْتَ إلى التقصير؛ وإنْ جاوزتَها في حَمْل العلم، لحقت بالجهَّال؛ وإن جاوزتَها في تكلُّف رضَى الناس والخفَّة معهم في حاجاتهم، كنت المُحسَّر المُضيَّع٨٦. بَابُ واعلم أنَّ بعض العطيَّة لُؤْمٌ٨٧، وبعض السلاطة غمٌّ، وبعض البيان عِيٌّ، وبعض العلم جهلٌ. فإنِ استطعتَ أن لا يكون عطاؤك جورًا ولا بيانك هَذَرًا٨٨ ولا علمك وبالًا، فافعل. بَابُ اعلم أَنَّه ستمُرُّ عليك أحاديث تُعجِبك: إِمَّا مليحةٌ وإمَّا رائعة. فإذا أعجَبتْك، كنتَ خليقًا أنْ تحفظها. فإِنَّ الحفظ موكَّلٌ بما مَلُحَ ورَاعَ. وستحرِصُ على أنْ تُعْجَبَ منها الأقوامُ. فإِن الحِرْص على التعجُّب من شأن الناس. وليس كل مُعْجِب لك مُعجِبًا لغيرك. فإذا نَشَرْتَ ذلك المرَّة والمرَّتين، فلم تَرَهُ وَقَعَ من السامعين موقعَه منك، فانزجرْ عن العودة. فإنَّ العَجُّبَ من غيْر عَجَبٍ سُخْفٌ شديدٌ. وقد رأيْنا من الناس مَن تعلَّق بالشيء ولا يُقْلعُ عنه وعن الحديث به، ولا يمنعه قِلَّة قبول أصحابه له من أنْ يعود إليه ثم يعود. ثمَّ انظُرِ الأخبار الرَّائعة٨٩ فتحفَّظ منها. فإنّ الإنسان من شأْنه الحِرصُ على الإخبار، ولا سيّما ما يَرتاع الناس له. فأكْثَرُ الناسِ مَن يُحدِّث بما سمع، ولا يبالي ممن سمِعَ. وذلك مَفْسَدة للصدق ومَزْرَأَة بالمُرُوءة. فإن استطعتَ أنْ لا تُخبِرَ بشيءٍ إلَّا وأنت به مصدِّقٌ (لا يكون تصديقك إلَّا ببرهانٍ)، فافعل. ولا تقل كما يقول السفهاء: «أُخْبِرُ بما سمِعْتُفإن الكَذِبَ أكثرُ ما أنت سامِعٌ، وإنَّ السُّفَهاء أكثرُ مَن هو قائلٌ. وإنَّك إنْ صِرتَ للأحاديث٩٠ واعيًا وحاملًا، كان ما تَعِي وتحملُ عن العامَّة أكثرَ مما يَخترعُ المخترعُ بأضعافٍ. انظر مَن صاحبْتَ من الناس، من ذي فضْلٍ عليك بسلطانٍ أو منزلةٍ، أو مَن دُون ذلك من الأَكْفاءِ والخُلَطاءِ والإخوان، فوَطِّنْ نَفْسَك في صُحبته على أنْ تقبَلَ منه العفوَ وتسخُو٩١ نفسُك عما اعتاصَ٩٢ عليك ممَّا قِبَلَه، غيْرَ معاتبٍ ولا مُستبطئٍ ولا مُستزيدٍ. فإنَّ المعاتبة مَقطَعةٌ للوُدِّ، وإنَّ الاستزادة من الجشع، وإنَّ الرضا بالعفو والمسامحة في الخُلُق مُقَرِّبٌ لك كلَّ ما تَتُوق إليه نفسُك، مع بقاء العِرض والمودَّة والمُرُوءة٩٣ واعلَمْ أنَّك ستُبْلَى من أقوامٍ بسَفَهٍ، وأنَّ سَفهَ السفيه سَيُطْلِعُ له منك حقدًا. فإن عارضته أو كافأْتَه بالسَّفَه فكأنَّك قد رَضِيتَ ما أتى به، فأحببتَ أنْ تحتذيَ على مثاله. فإنْ كان ذلك عندك مذمومًا، فحقِق ذمَّك إيَّاه بترك معارضته. فأمَّا أنْ تذمَّه وتمتثلَه، فليس ذلك لك سَدادٌ. لا تصاحبنَّ أحدًا (وإنْ استأنستَ به أخًا ذا قرابة أو أخًا ذا مودَّة) ولا والدًا ولا ولدًا إلَّا بمروءة. فإن كثيرًا من أهل المُرُوءة قد تحملهم الاسترسال والبذُّل على أنْ يصحبوا كثيرًا من الخُلَطاء بالإدلال والتهاون والتبذُّل. ومن فَقَدَ من صاحبه صُحبة المروءة ووقارَها وجلالَها، أحدثَ ذلك له في قلبه رِقَّة شأن وسُخف منزلة. بَابُ ولا تلتمس غَلَبَةَ صاحبك والظَّفَرَ عليه عند كلِّ كلمةٍ ورأيٍ، ولا تجترئَنَّ على تقريعه بظَفَرك إذا استبان، وحُجَّتك عليه إذا وَضَحَت. فإنّ أقوامًا قد يحملهم حُبُّ الغَلَبَة وسَفَهُ الرأْي في ذلك على أنْ يتعقَّبوا الكلمة بعد ما تُنْسى فيلتمسوا فيها الحُجَّة، ثم يستطيلون بها على الأصحاب. وذلك ضَعْفٌ في العقل ولُؤْمٌ في الأخلاق. بَابُ لا يُعجبنَّك إكرام مَن يكرمك لمنزلةٍ أو لسلطانٍ فإِنَّ السلطان أوشكُ أمور الدنيا زوالًا. ولا يُعجبنَّك إكرامُ مَن يكرمك للمال، فإنّه هو الذي يتلو السلطان في سرعة الزوال. ولا يُعجبنَّك إكرامهم إيَّاك للنسب، فإن الأنساب أقلُّ مناقب الخير غَناءً عن أهلها في الدِّين والدنيا٩٤. ولكنْ إذا أُكْرِمْتَ على دِينٍ أو مُرُوءَةٍ فذلك فليعجبك! فإنَّ المُرُوءة لا تزايلك في الدنيا، وإنَّ الدين لا يزايلك في الآخرة. بَابُ اعلم أنَّ الجبنَ مقتلةٌ وأنَّ الحرص مَحْرَمَةٌ٩٥. فانظر فيما رأيتَ أو سمعت: أمَنْ قُتِل في القتال مُقبِلًا أكثرُ، أم من قُتِل مُدبِرًا؛ وانظر أمَنْ يطلب إليك بالإجمال والتكرُّم أحقُّ أنْ تسخُوَ نفسك له بطَلبته أمَّن يطلب إليك بالشَّرَة٩٦ والزيغ٩٧؟ بَابُ واعلم أنَّه ليس كلُّ مَن كان لك فيه هوًى، فذَكرَهُ ذاكرٌ بسوءٍ وذكرتَه أنت بخير ينفعه ذلك، بل عسى أنْ يضرَّه. فلا يستخفنَّك ذِكرُ أحدٍ من صديقك أو عدوك، إلَّا في مواطن دفعٍ أو محاماة. فإنَّ صديقك — إذا وثق بك في مواطن المحاماة — لم يحفِل بما تركتَ مما سوى ذلك، ولم يكن له عليك سبيلُ لائمةٍ. وإنَّ من أحزم الرأي لك في أمر عدوِّك أنْ لا تذكره إلَّا حيث تضرُّه، وأن لَّا تَعدَّ يسيرَ الضرر له ضررًا. بَابُ اعلم أنَّ الرجل قد يكون حليمًا، فيحمله الحِرصُ على أنْ يقول الناس جليدٌ، والمخافةُ أنْ يقال مَهينٌ على أنْ يتكلَّف الجهل. وقد يكون الرجل زميتًا٩٨ فيحمله الحرص على أنْ يقال لَسِنٌ٩٩، والمخافةُ من أنْ يقال عَيِيٌّ على أنْ يقول في غير موضعه فيكون هَذِرًا١٠٠. فاعرف هذا وأشباهَه، واحترسْ منه كلَّه. بَابُ إذا عَرَض لك وبَدَهَك أمران لا تدري أيُّهما أصوبَ، فانظُرْ أيَّهما أقربُ إلى هواك، فخالِفْهُ. فإنَّ أكثرَ الصواب في خلاف الهوى. وليجتمعْ في قلبك الافتقارُ إلى الناس والاستغناءُ عنهم! ولْيكنِ افتقارُك إليهم في لِينِ كلمتك لهم وحُسْنِ بِشرِك بهم! ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عِرْضِك وبقاء عِزِّك. بَابُ لا تُجالسنَّ امرءًا بغير طريقته! فإنَّك إنْ أردتَ لِقاءَ الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعييِّ بالبيان، لم تَزِدْ على أنْ تُضيِّعَ عِلمك وتُؤْذي جليسك، بحَمْلك عليه ثِقْلَ ما لا يَعْرِفُ وغمِّك إِياه بمثل ما يغتمُّ به الرجُل الفصيحُ من مخاطبة١٠١ الأعجم١٠٢ الذي لا يفقه عنه. واعلمْ أنَّه ليس من عِلمٍ تذكرُهُ عند غير أهله إِلَّا عابوه١٠٣ ونصبوا له ونقضوه عليك وأبغضوك عليه، وحَرَصوا على أنْ يجعلوه جهلًا، حتى إنَّ كثيرًا من اللهو واللّعِبِ الذي هو أخَفُّ الأشياء على الناس لَيَحْضُره من لا يعرفُهُ، فيثْقُلُ عليه ويغتَمُّ به. بَابُ ليعْلمْ صاحبُك أَنك تُشْفِق عليه وعلى أصحابه١٠٤! وإيَّاك إِنْ عاشرك امروءٌ أو رافقك، أنْ يَرَى منك الوُلوعَ بأحَدٍ من أصحابه وإخوانه وأخدانه. فإنَّ ذلك يأخُذُ من أعِنَّة القلوب مأخذًا. وإنَّ لُطْفَك بصاحبِ صاحبِك أحْسَنُ عنده موقِعًا من لطْفكَ به في نفسه. بَابُ واتَّقِ الفَرَحَ عند المحزون، واعْلَمْ أَنه يَحْقِدُ على المُنطلِق ويشكر للمُكتئِب. اعلم أنَّك ستسمع من جُلسائك الرأيَ، والحديثَ تُنكرُهُ وتستخفيه١٠٥ وتستشنعه من المتحدِّث به عن نفسه أو غيره، فلا يكوننَّ منك التكذيب ولا التسخيف لشيءٍ مما يأْتي به جليسك. ولا يُجرِّئنَّك على ذلك أنْ تقول: إنما حدثَ عن غيره. فإنَّ كلَّ مردودٍ عليه سيمتعِضُ من الردِّ. وإنْ كان في القوم من تكرَهُ أنْ يستقرَّ في قلبه ذلك القول، لخطأٍ تخاف أنْ يعقد عليه أو مضرَّة تخشاها على أحدٍ، فإنَّك قادرٌ على أنْ تنقُضَ، ذلك في سَتر، فيكون ذلك أيْسرُ للنقض وأبعد للبِعضة. بَابُ اعْلَمْ أنَّ البِغْضَةَ خَوْفٌ، والمَوَدَّةَ أمْنٌ، فاستكثر من المَوَدَّة صامتًا. فإنَّ الصمت سيدعوها إليك. وإذا ناطقتَ، فناطِقْ بالحُسنى. فإنَّ المنطِقَ الحَسَنَ يَزيدُ في وُدِّ الصديق ويَسْتَلُّ١٠٦ سخيمة الوَغْر١٠٧. بَابُ اعْلَمْ أنَّ خَفْضَ الصوت وسكونَ الريح ومشيَ القَصْد من دواعي المودَّة، إذا لم يخالط ذلك بأْوٌ١٠٨ ولا عُجْبٌ. العُجْب من دواعي المقْتِ والشَّنَآن١٠٩. بَابُ تعلم حُسْنَ الاستماع كما تتعلَّمُ حسن الكلام. ومن حسن الاستماع إمهالُ المتكلمِ حتى ينقضِي حديثُه، وقلَّةُ التلفتِ إلى الجواب، والإقبالُ بالوجهِ والنظرِ إلى المتكلمِ، والوعْىُ لما يقول. اعلم أنَّ المستشار ليس بكفيل، وأنَّ الرأي ليس بمضمونٍ. بل الرأيُ كلُّه غَرَرٌ١١٠. لأن أمور الدنيا ليس شيءٌ منها بثقةٍ، ولأنه ليس من أمرها شيءٌ يدركه الحازم إلَّا وقد يُدركه العاجز. بل ربما أعيى الحَزَمَةَ ما أمكَنَ العَجَزَةَ. فإذا أشار عليك صاحبُك برأيٍ، ثم لم تجد عاقبتَه على ما كنتَ تأمُلُ، فلا تجعلْ ذلك عليه دَيْنًا ولا تُلزِمْهُ لَوْمًا وعَذْلًا، بأنْ تقول: أنْتَ فَعلتَ هذا بي، وأنْتَ أمرتني، ولولا أنت لم أفعَلْ، ولا جَرَمَ لا أطيعُك في شيءٍ بعدها. فإن هذا كله ضَجَرٌ ولؤمٌ وخِفَّةٌ. فإن كنتَ أنت المشيرُ، فعَمَل برأْيِك أو تركه، فبدا صوابُك فلا تَمْنُنْ١١١ به ولا تُكْثِرَنَّ ذِكْرَهُ إنْ كان فيه نجاح، ولا تَلُمْهُ عليه إنْ كان قد استبان في تركه ضرر، بأن تقول: أَلَمْ أقُل لك: افعل هذا. فإنَّ هذا مُجانبٌ لأدب الحكماء. بَابُ اعلم — فيما تُكلِّمُ به صاحبَك — أنَّ مما يُهجِّنُ صواب ما يأتي به، ويَذْهبُ بطعمه وبهجته، ويُزْرِي١١٢ به في قبوله، عَجَلَتُك بذلك وقطْعُك حديثَ الرجُل قبل أنْ يُفْضِي إليك بذات نفسهِ. بَابُ ومن الأخلاق السيِّئة على كل حال مُغَالبةُ الرجل على كلامه والاعتراضُ فيه، والقطعُ للحديث. بَابُ ومن الأخلاق التي أنت جديرٌ بتركها — إذا حدَّث الرجلُ حديثًا تعرِفُهُأنْ لا تسابقَه إليه وتفتحه عليه وتشاركه فيه، حتى كأنَّك تُظهر للناس أنك تُريد أنْ يعلموا أنَّك تعلمُ مِثْلَ الذي يعلمُ. وما عليك أنْ تُهْنئه بذلك وتفْرِدَهُ به. وهذا الباب من أبواب البخل. وأبوابُهُ الغامضة كثيرةٌ. بَابُ إذا كنتَ في قوم ليسوا بُلَغاء ولا فُصحاءَ، فَدَعِ التطاوُل عليهم بالبلاغة والفصاحة. بَابُ واعلمْ أنَّ بعضَ شدَّةِ الحَذَرِ عَوْنُ عليك لِمَا تَحْذَرُ، وأَنَّ بعضَ شدَّة الاتِّقاء مِمَّا يدعو إليك ما تَتقي. بَابُ إن رأيتَ نفسك تصاغَرَت إليها الدنيا، أو دعتْكَ إلى الزهادة فيها على حال تعذُّر من الدنيا عليك، فلا يغرَّنَّكَ ذلك من نفسك على تلك الحال. فإنها ليست بزهادة ولكنَّها ضجرٌ واستخذاء١١٣ وتعيير نفس١١٤ عليك عند ما أعجزك من الدنيا وغضبٌ منك عليها لِمَا الْتَوى عليك منها. ولو تَمَّمْتَ على رفضها وأمْسكتَ عن طلبها، أوْشَكْتَ أنْ تَرى من نفسك من الضَّجَر والجزَعِ أشَدَّ من ضَجَرِك الأوَّل بأضعافٍ. ولكنْ إذا دَعَنْك نفسُك إلى رفض الدنيا وهي مقبلة عليك، فأسْرِعْ إجابتها. بَابُ اعرف عوراتك. إيَّاك أن تُعَرِّض بأحدٍ فيما ضارعها١١٥! وإذا ذُكِرَتْ من أحدٍ خليقةٌ فلا تُناضل عنه مُناضلَةَ المُدافع عن نفسه، المُصغِّرِ لِمَا يعيبُ الناسُ منه، فَتُتَّهَمَ بمثلها؛ ولا تُلحَّ كُلَّ الإلحاح. وليكُنْ ما كان منك في غير احتلاط١١٦، فإنَّ الاحتلاط من محقِّقَات الرِّيَبِ. بَابُ إذا كنتَ في جماعةِ قومٍ أبدًا، فلا تَعُمَّنَّ جيلًا من الناس أو أمَّة من الأمم بشَتْم ولا ذَمٍّ. فإنَّك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جُلسائك مُخطِئًا١١٧، فلا تأمَن مُكافأتَهُمerrata 1؛ أو مُتعمِّدًا، فتُنْسَبُ إلى السَّفَهِ. ولا تَذُمَّنَّ مع ذلك اسمًا من أسماء الرجال أو النساء بأنْ تقول: إنَّ هذا لقبيحٌ من الأسماء! فإنَّك لا تدري لعلَّ ذلك غير موافق لبعض جُلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأهلين الحُرُم١١٨. ولا تستصغرنَّ من هذا شيئًا. فكلُّ ذلك يجرَحُ في القلب. وجُرْحُ اللّسان أشَدُّ من جرح اليدِ. واعلم أنَّ الناس يَخْدعون أنفُسَهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثَالبهم ومَساويهم، وتنقصهم١١٩. وكلُّ ذلك أبْيَنُ عند سامعيه من وَضَحَ الصُّبْحِ. فلا تكونَنَّ من ذلك في غرور، ولا تجعلنَّ نفسك من أهله. بَابُ اعلم أنَّ مِن تنكُّب الأمور ما يُسمَّى حَذَرًا، ومنه ما يُسمَّى خَوَرًا. فإن استطعت أنْ يكون لحينِك من الأمر قبل مواقعتك إياه، فافعلْ. فإنّ هذا الحَذَرُ. ولا تنغَمِس فيه ثم تتهَيَّبُهُ، فإنّ هذا هو الخَوَرُ. فإنَّ الحكيم لا يخوض نهرًا حتى يعلم مقدار قَغْرِه. بَابُ قد رأينا من سُوء المجالسة أنَّ الرجل تثقُلُ عليه النعمة يراها بصاحبه. فيكون ما يشتفي بصاحبه — في تصغير أمره وتكدير النعمة عليه — أنْ يذكر الزوال والفناء والدوَل، كأنَّهُ واعظٌ وقاصٌّ. فلا يخفى ذلك على من يُعنَى به، ولا غيره. ولا يُنَزَّل قولُهُ بمنزلة الموعظة والإبلاغ، ولكن بمنزلة الضَّجَر من النعمة — إذا رآها لغيره — والاغتمامِ بها والاستراحةِ إلى غير رَوْحٍ. وإني مخْبرك عن صاحبٍ لي، كان من أعظم الناس في عيني. وكان رأسُ ما أعظمَهُ في عيني صِغَرَ الدنيا في عينه. كان خارجًا من سلطان بطنه، فلا يتشهَّى ما لا يجد ولا يُكثر إذا وَجَدَ؛ وكان خارجًا من سلطان فَرْجِهِ، فلا يدعو إليه ريبة١٢٠ ولا يستخفُّ له رأيًا ولا بدنًا؛ وكان خارجًا من سلطان لسانه، فلا يقول ما لا يَعْلَمُ ولا ينازع فيما يعلم؛ وكان خارجًا من سلطان الجهالة فلا يُقْدِمُ أبدًا إلا على ثقةٍ بمنفعةٍ. كان أكثَرَ دهره صامتًا، فإذا نطق بَذَّ الناطقين. كان يُرَى متضاعفًا مستضْعَفًا، فإذا جاء الجِدُّ فهو الليث عاديًا. كان لا يدخُل في دَعْوى، ولا يشترك في مِراءٍ، ولا يُدْلي بحُجَّة، حتى يَرى قاضيًا عَدْلًا وشُهودًا عُدُولًا. وكان لا يلوم أحدًا على ما قد يكون العذر في مثله، حتى يعلم ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعًا إلَّا إلى مَن يرجو عنده البُرْءَ. وكان لا يستشير صاحبًا إلى من يرجو عنده النصيحة. وكان لا يتبرَّم، ولا يتسخَّط ولا يتشهَّى، ولا يتشكَّى. وكان لا ينقمُ على الوليِّ، ولا يَغْفُلُ عن العدُوِّ، ولا يخصُّ نفسَه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته. فعليك بهذه الأخلاق إنْ أطقتَ، ولن تطيق. ولكنَّ أخذَ القليل خيرٌ من ترك الجميع١٢١. واعلم أنَّ خيْر طبقاتِ أهل الدنيا طبقةٌ أصِفُها لك: مَنْ لَمْ ترتفِعْ عن الوضيعِ ولم تتَّضِع عن الرفيع. أي لمعارفك (Connaissances) الذين لم تصل درجتهم معك إلى درجة الصديق. وقد استعمل ابن المقفع لفظة المعارف أيضاً فيما سيجيء. العرض: جانب الرجل الذي يصونه من نفسه وحسبه أن ينتقص ويثلب، سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. أو موضع المدح والذم منه أو ما يفتخر به من حسب وشرف. روأ في الامر نظر فيه وتعقبه ولم يعجل بجواب. ومنه: الرويئة والروية للتفكر مع التدبر. أي حبسه والامتناع عن والامتناع عن الاستمرار فيه. السخف رتة العقل. الصلف: أن يتكلم الإنسان بما يكرهه صاحبه أو يتمدح بما ليس عنده. من التخلية أي الترك. أي المماثلين لك. أي فحملك هذا الفضل على أن تطلعه وتظهره وتبرزه. سبق شرحهما في الأدب الصغير . فليراجع هناك. وفي نسخة الشنقيطي: ولا تعبه. وكذلك في ع. وعند الامير شكيب: ولا تعتبه. تحتجز وتستبقي. في ع: فإنَّما هو حكمه ورضاه. وفي ش: فإنَّما حكمه رضاء. وقد ضبط الشنقيطى حكمه بفتح الحاء والكاف. في السلطانية وحدها: معذوراً. وفي ش::"صبرت على مقارته غير الرضى" بتشديد الراء. بمعنى إقراره والبقاء عليه. وهي رواية لا باس بها. وفي ع: صبرت على مقارنة غير الرضى. وفي ش وع:: "عاد ذلك إلى العيب والنقيضة". وفي ش و ع: "الاتئاد" مكررة. بمعنى الرزانة والتأني. وهي رواية جيدة جدًا. وأما الارتياد فمعناه التطلب ودقة البحث. وفي هذا اللفظ مع الذي يلية مجانسة ومشاكله. ويتعين هذا اللفظ كما يراه القارىء في الباب التالى الذي هو بمثابة شرح وبيان لهذا التحضيض. أي ممن يرتكب الأمور التي توجب التشنيع عليه والتعيير له. أي الغرور الذى توجيه ولاية الحكم ونفاذ الأمر. وهكذا في باق الكلمات التالية. في ش و ع: "تفرشك". ومعناه التبسط. وبينه وبين الانقباض مشاكلة. غير إننا اخترنا لفظة التقرب لقربها من الافهام ولانها هي الواردة في النسخة السلطانية التي اعتمدنا عليها. في ش: "وفسولة الاصدقاء". والفسولة صفة الفسل أي الرذل "بسكون الذال" الذي لا مروءة له. ولكن الكلام يدور على صديق السوء فروايتنا أمتن. لأن الفسولة لا تقابل البغض. أي اوجب لك العيب عند الناس. هكذا في جميع النسخ ولعلها تحريف لقوله يذيع. كتب الشنقيطي بخطه على هامش هذه القطعة البيتين المشهور من وهما: احـذَر عـدوَّك مـرَّةً واحذَر صَديقَكَ ألف مَرَّه فَلَرُبَّما اِنقَلَبَ الصَّديـ ـقُ فَكانَ أَعلَمَ بالمَضَرَّه ش: واحتجاز. ع: ولا تلفين "أي بالمبنى المجهول مع نون التوكيد الثقيلة". ش: و ع: بينات. ش: و ع: العقل. ش: و ع: أداة مغلبة "وضبطها الشنقيطي بالإضافة". ش و ع: اشتباه. كتب الشنقيطى بخطه على هامش هذا الموضع في نسخته ما نصه: وما منك الصديق ولست منه إذا لم يعنه شيء عناكا أي فاصنع جميلًا بالإحسان في التسلية له عما أصابه. هذا الباب وما يليه لغاية صفحة ورد في نسخة عاشر أفندي منقولًا عن موضعه اللائق به. فإن ابن المقفع يتكلم فيه وفيما يليه عن آداب الاخاء، وحلها في هذا للقسم الثاني لا في القسم الأول الذي هو خاص بآداب السلاطين والولاة. وقد ترتب على هذا الخرم اضطراب في السياق كما ستراه في حاشيته صفحة أي من شأنها التنقل من حال إلى حال. في النسخة السلطانية: عيانًا. وقد كتب الشنقيطى في نسخته على هامش هذا الباب بخطه ما نصه. عندِى حَدَائِقُ وُدٍ غَرسُ أنعُمِكُم قَد مَسَّها عَطَشٌ فَليسقِ من غَرَسا تَدَارِكوها وَفِى أغصانِها رَمَقٌ فَلَن يَعُودَ اخضِرَارُ العُودِ إِن يَبسا ش: طليق. سقط باقي الكلام هنا في نسخة عاشر أفندي فاضطرب المعنى واختل النظام. وقد تداركها الأمير شكيب توضع من عنده لفظة "واقله" تكميلًا لخبر الجملة. ولقد أحسن والله في ملافاة هذا النقص بما اوصله إليه اجتهاده. وأمَّا نسخة الشنقيطي فبقيت على حالها لا يفهم الإنسان منها شيئًا. والحمد لله الذي وفقنا للعثور على النسخة السلطانية ففيها الكمال. في هذا الموضع كما في كثير غيره. السورة "بفتح السين" هي الشدة والحدة. ضد الحلم "بالحاء المهملة" كما هو في غير هذا الموضع ضد العلم. الأنفة والعزة والنمرة. الجهل هذا هو ضد العلم "بالعين المهملة". أي استمرت واتقدت والتهبت. ش: أكثرهما. أي فيه صلابة وكثرة احتمال. في النسخة السلطانية: متحملًا. ورواية ش أفضل. الحفاظ هو الذب عن المحارم. ش: مواظبًا. ش: وبلغتك "بضم الباء". والتعلل أوقع في هذا الموضع. الأمير شكيب: واحداهما. وهو تصحيف من المطبعة ولا شك ش : تقابل. أفاده واستفاده وتفيده بمعنى واحد وهو اقتناه. ش: طَرْق النَبْل "بفتح النون وسكون الباء الموحد التحتية" هي السهام، مثل النبال. أي احترزوا منه. الإرب "بكسر الهمزة" الدهاء. أي ستره واراته. الهيبة المخافه والتقيه. أي فاجمع والمفعول هو قوله في آخر الجملة: طائفة من رأيك. الشجاعة والاقدام. الاستسهال والاستخفاف. في النسخة السلطانية: فخالف "بالمعجمه". ش: كلما. وهو وهم من الناسخ الأول. أي اتيت مثله وارتكبته. ش: فكابر. أي أبصرت وأحسست من نفسك. الضميران في كلمتي (له ، به) يعودان على أحصاء الإنسان عيوبه. ش : جانيًا. والتصحيف من الناسخ الأول إذ لا يستقيم المعنى في هذا المقام بالجناية كما يستقيم بالخيانة كما يدل عليه السياق . من أعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب. أي الغاية التي يتجه إليها نظرك. بدهه بأمر استقبله به مفاجأة. جمع بغتة وهي الفجأة. النسخة السلطانية: أوضع. يكره. بیته وداره. كتب الشنقيطى بخطه على هامش هذا الموضع من نسخته ما نصه: وَكُنتَ مَتَى أَرْسَلتَ طَرفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِر رَأَيْتَ الذِي لَا كُلُّهُ أنتَ قَادِر عَلَيهِ وَلَا عَن بَعْضِهِ أَنتَ صَابِر كتب الشنقيطي بخطه على هامش هذا الموضع من نسخته ما نصه: إِذَا بَارَكَ اللهُ فِي مَلَبَسٍ فَلا بَارَكَ اللهُ فِي البُرقُعِ يُرِيكَ عُيُونَ المَهَا غرَّةً وَتكْشِفُ عَنْ منظر أشتع يطردها ويمنعها. كتب الشقيطى بخطه على هامش هذا الباب من نسخته ما نصه: کن کاملًا وأرض بصف النعال ولا تكن صدرًا بغير الكمال فإن تصدرت بلا آلة صيرت ذاك الصدر صف النعال النسخة السلطانية: ما لم يعلم. ولهذه الرواية أيضًا وجه وجيه. أي تباعده وأبعده. وفي ش: اعرفه. وعندى أن هذه اللفظه اشتبهت على الناسخ فلم يعرف معناها فصحفها وظن أنه صححها الاحتجان الجذب إلى النفس. "هذا التفسير وارد في متن نسخة نور عثمانية، بغير فاصل وبدون تنبيه". عيب. الخَلَّة الخصلة "بفتح الخاء فيهما". أي الراحة. ش: تأخيره. في ش: المصنع المحصور. وقد أراد الأمير شكيب اصلاح هذا التركيب فقال: المصنع المحسود. وكلا الوجهين بعيد عن المعنى الذي يستلزمه السياق. ورواية النسخة السلطانية في منتهى المتانة والرصانة والمعنى واضح. وملائم لمقدمة الكلام. النسخة السلطانية: سرف "يفتح السين والراء". وهي رواية وجيهة أيضًا. الهذر سَقَط الكلام. "والسقط بفتح السين والقاف". أي احترس منها. في النسخة السلطانية: للأكاذيب. ش: وتسخر. وهو تصحيف من الناسخ لا يرتبط بالمعنى، كما يظهر من النظر في سياق الكلام بأدنى تأمل. أي ما يصعب عليك استخراج معناه. كتب الشنقيطي بخطه على هامش نسخته في هذا الموضع ما نصه: وَاِنْهَ المُشيرَ عَلَيكَ فيَّ بِضَلَّةٍ فَالحَرُّ مُمتَحِنٌ بِأَولادِ الزِنى كتب الشنقيطي بخطه على هذا الموضع من نسخته ما نصه: في المعنى: كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَبًا يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي كتب الشنقيطي بخطه على هامش هذا الموضع من نسخته ما نصه: في المعنى: عِشْ عَزِيزًا أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ تَحْتَ ظلّ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ فَرُؤوسُ الرِّمَاحِ أَذْهَبُ لِلْغَيْـ ـظِ وَأَشْفَى لِغِلِّ الحَسودِ لَا كَمَا قَدْ حَيِيتَ غَيْرَ حَمِيدٍ وَإِذَا مِتَّ مِتَّ غَيْرَ فَقِيدِ فَاطْلُبِ الْعِزَّ فِي لَظَى وَاترك الذُّلََ وَلَوْ كَانَ فِي جِنَانِ الْخُلُودِ يُفتَك الْعَاجِزُ الْجَبَانُ وَقَدْ يُعْجِزُ عَنْ قَطْعِ بِخُنْقِ الْمَوْلُودِ وفى المعنى: وإذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌّ فَمِنَ العَجْز أَنْ تَمُوتَ جَبَانًا لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبْ فَقَدْ رَفَعَ الْإِسْـلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ وَقَدْ وَضَـعَ الشِّرْكُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبْ فى النسخة السلطانية: "بالشر". والمعنى واحد. الجور عن الحق. الزميت: الوقور. والزميت: الكثير الوقار. وفي النسخة السلطانية: "زمينًا" وهو تصحيف وخطأ. أي فصیح. كثير الكلام في الخطاء والباطل. في النسخة السلطانية: مخالطة. في ش ع: الأعجمي. في ش ع: عادوه. في ش ع: ليعلم صاحبك انك حَدِبٌ على صاحبه. والمعنى متعطف عليه) في ش ع: وتستجفيه. وبقية الكلام تؤيد روايتنا. في ش ع: "ويسلُّ". والمعنى واحد ولكن الأمير شكيب صححها فجعلها "يسهل". ولا وجه للتصحيح. أي الحقد والضغن والعداوة. وفى النسخة السلطانية: "العدو". البأو هو الفخر والكبر والتيه. البغض. أي على غير عهدة ولا ثقة. ومنه بيع الغرر مثل يبع السمك في البحر، والطير في الهواء. في ش ع: فلا تمتن. زري عليه: عابه. الاستكانة والخضوع. في ش ع: وتغيُّر نفس. في ش ع: "سارعها". وقد قرب الأمير شكيب من الحقيقة حينما أصلح هذا الحرف فجمله: "شاركها". الاحتلاط هو الاجتهاد في الحلف واليمين وهو المبالغة في الغضب أيضًا. وقد ورد هذا الحرف على الصواب في نسخة الشنقيطي دون سائر النسخ الأخرى، فقد ورد فيها هكذا: "الاختلاط" بالخاء المعجمة. وهو تصحيف ظاهر. في ش ع: "ولا تعلم" بدلًا من "مخطئًا". والجملة التالية ساقطة. هذه الجملة ينقصها كلمات كثيرة في ش ع بحيث صارت مضطربة لا توءدى إلى معني بل تخالف سياق الكلام وانتظام الفكر. في ش، ع: ونقيصتهم في ش: مؤونة. تضمنت النسخة السلطانية وحدها (في هذا الموضع) فقرة واردة في "الأدب الصغير" (ص ۳۰ و ۳۱) مع زيادة ونقص في اللفظ دون المعنى. فلم نر وجهاً لتكرارها هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج5 وج6.كتاب عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري

  ج5 وج6.كتاب عيون الأخبار ابن قتيبة  الدينوري وقال بعضهم: إن أحب إخواني إليّ، من كثرت أياديه عليّ . شعر لرجل في أخٍ له وقال رجل في أخ...